الفاهم بوكدوس الذي يقبع في السجن منذ 15 جويلية للسنة الجارية، يجبر على خوض محنة هو في الواقع غير مؤهل لها. فهو مطالب أن يتسلق الجبل والحال أنه لا يملك لا المعول اللازم لمعتلي الجبال ولا الرئتين. وبالتالي فهو في وضعية لا تحتمل موضوعيا نهاية الصعود أو المحنة، باستثناء ألأجل المحتوم الذي لا نتمناه ولكن يتوجب توقعه ومن ثمة فإن هاجس الخوف الحاد والمشروع من أن يترك السجين لوحده في مواجهة هذا المصير المحزن يدعو بحق ضميرنا ويصرخ فيه بالصوت المدوي: عندما يتعلق الأمر بمسألة حياة أو موت، ليس مسموحا لنا أن نقبع في حالة الانتظار أو اللامبالاة
ليس كافيا أن نقول بأن الفاهم بوكدوس مريض، فالدلالة لا تفي بالمعنى الصحيح وهو أن حياة هذا الشخص في خطر
وفي غياب العدالة والشجاعة لرد الإعتبار رسميا للمعني، بتبرئته تماما وإخلاء سبيله فورا، فإن عملا ذا طابع إنساني مطلوب بقوة كبديل في الوقت الراهن وهذا الصحفي الذي أدين لرأي وليس لجريمة في تصورنا يستحق عن جدارة معاملة خاصة الفاهم بوكدوس الذي يشكو من ربو مزمن ومشاكل في الرئتين ، وألقي القبض عليه وهو في طريقه لفحص طبي ويمثل حالة خاضعة باستمرار لكل المضاعفات التي يمكن أن تنتج عن وضعية الإعتقال وما يصاحبها من مشاكل الاكتظاظ بالسجن ليس مؤهلا لتحمل عقوبة السجن لا العقوبة بمدتها الكاملة (4 سنوات) ولا لعقوبة بديلة إن جاز التصور بأن هناك فكرة لتخفيفها للحد الأدنى
فالتدخين السلبي والغبار والحرارة الخانقة وأي تغييرات في درجة الحرارة المحيطة وغياب الملاحظات السريرية وعدم وجود الرعاية الكافية على فترات منتظمة، أضف إليها كل العناصر المقلقة والمتأتية من الإكتظاظ، كل هذه العوامل وهي ليست بالهينة تجعلنا نخشى الأسوأ وما لا يمكن تداركه بالنسبة لهذا السجين ومن هنا جاءت الحاجة الملحة لهذه الدعوة وهذه الإستغاثة التي لا تستثني أي صاحب نية حسنة من أي جهة سياسية قد تكون، شرط أن تستجيب لنداء الضمير وتسعف المعني
إن مكان المريض، حتى لو كان مجرم حق عام ومن طينة تنزع للإنتكاس، هو المستشفى وليس السجن وفي حالة شخص جريمته الوحيدة أنه قبل أن يكون شاهدا على انتفاضة عمالية وسلط عدسة تصويره على جرحنا المتعفن ليرينا ما لا نريد رؤيته أو الكشف عنه لعيون الآخرين فإنه يكون من السخف ان نضمر له حقدا بهذا الحد واستمرار احتجازه، عدا كونه يمثل محنة لا تطاق هو جريمة، سيما وأن ضعف هذا المريض ليس سرا لأحد
إن كل دقيقة تمر وتأخر العلاج الحيوي مرجحة لتنذر بالساعة المصيرية وإذا كانت الدولة لا تتحرج من اللامبالاة ولا من هذا الإعتقال الذي يساوي عمليا إعداما ولا من معاناة أسرة السجين و أصدقاءه فإن التونسيين وأصدقاء تونس قي جميع أنحاء العالم لا يمكنهم مجاراة الدولة في هذا المنحى
فبصرف النظر عن كل اتجاه سياسي، المسألة تضع الضمير الإنساني على المحك لأنها تتعلق بقضية حق لا جدال فيها والإمتناع عن مساعدة شخص يواجه خطر الموت، أو يواجه خطرا وكفى، هو جريمة في القانون البشري والإلاهي لجميع الشعوب وجميع الأمم
وفضلا عن هذا القانون الذي يكفل للمعني حقه المشروع في المساعدة العاجلة فإن تاريخ الشعب التونسي يسائل القانون الزجري من جهة أخرى ويذكره بالسياق التاريخي والإجتماعي الذي يتوجب أخذه بعين الإعتبار بالإضافة للحريات المدنية والمبادئ الدستورية. إن سجن بوكدوس يمثل إهانة لأرواح الزعماء التاريخيين للحركة النقابية التونسية فالمرحومون محمد علي الحامي وفرحات حشاد ومختار التليلي والحبيب عاشور وغيرهم بلا حصر، كل هذه الرموز والمعالم النضالية التي تنتمي للوعي الجماعي ولا تقبل التجزئة لحساب حزب أو فئة، لو أتيح لها أن تعود بيننا وتلاحظ الخطأ أوالخطيئة المرتكبة في حق نضالاتها فإنها لن تتهاون في تأنيب القانون الجائر الذي يدنس أرواحهم
الفاهم بوكدوس لم يفعل شيئا آخر سوى السير على خطى هؤلاء الرجال الذين رسموا بجهادهم على امتداد القرن الماضي تاريخ الحركة القومية والعمالية وهؤلاء الرجال الذين أودعناهم القبور وليس النسيان ما انطفؤوا في ذاكرة التونسيين ولا كانوا غائبين في الأحداث التي عاشها الحوض المنجمي منذ سنتين وكاميرا مراسل قناة الحوار المتهمة بالتحريض على الاضطرابات والمودعة بالسجن وفق هذا الإتهام شئنا أم أبينا دخلت التاريخ التونسي تحت الهالة المستحقة والسند التاريخي لأرواح قادتنا النقابيين، أما أن يكون هناك إجماع أو لا يكون بخصوص الأغراض السياسية المنسوبة لهذه الكاميرا فذاك ليس من شأن العدالة أو القانون إلا إذا سيسنا القانون والعدالة وأما أن تتناسب هذه الكاميرا مع شق من التونسيين وتزعج شقا آخر، فالعدالة فوق الجميع ولا يمكنها أن تنحاز لشق على حساب الآخر حتى تعاقب هذه الكاميرا ولكن إذا ارتأى الشعب أن يجعل منها مدعاة فخر شأنها في ذلك شأن الملحمة العمالية للحوض المنجمي، فبالتأكيد يتوجب على الكاميرا أن تمثل أمام العدالة ولكن ليس في قفص الإتهام بل كشاهدة وربما كلسان دفاع أيضا. ويكفي أن تتفضل العدالة فقط بمناداة الذاكرة التونسية لتصبح الكاميرا في المقام الذي يخولها الدفاع بنفسها عن نفسها وطلب التبرئة للمتهم وإخلاء السبيل في هذه القضية لأن القانون الذي يعاقب التاريخ الوطني وشرعية النضال الإجتماعي يضر بالمواطن والقاضي على حد السواء وبالتالي فإن ضمير حشاد لا يمكن أن يسجن لسبب وجيه وهو أن ذلك الضمير لا يقاضى
في أماكن أخرى وتحت سماوات أرحب، حكمة الشعوب والأمم سواء في قمة الهرم أو القاعدة ما كانت لتخص هذا الصحفي المستقل بمهانة كهذه التي ذاقها في ربوع الوطن، كان يحضى بتقدير يكون للعرفان فيه وجه أفضل، وكان ينال الأوسمة والجوائز ويتوج لما تميز به في خدمة الوطن ومهنة الصحافة بل وفن التوثيق أيضا لأنه ، حتى وإن رأت السلط السياسية والقضائية عكس ذلك، لا يقل فضلا عن كتاب الحوليات التاريخيين الذين وثقوا لمختلف حلقات النضال الاجتماعي سواء كان التوثيق أثرا فنيا أو صورة لواقع معاش فالفنانون والمؤرخون والكتاب والصحافيون استثمروا جميع أشكال التعبير فيما اصطلح على تسميته بالشهادة الإجتماعية وحين نذكر هذا المصطلح لا نستثني ضمن خصوصياته الأساسية حق الذاتية والإنحياز فالشعب يصرخ ولكنه لا يكتب ولا يصور أفلاما وليس له مجال يسمح له بتخليد صوته لأن هذا الأمر ليس من أولوياته ولا من مشمولاته بل هو مناط بعهدة الذين يملكون الأدوات اللازمة لذلك والوقت إلى جانب القناعة بأن هناك فترات بارزة في تاريخنا لا يمكن هدرها، فرص الخلاص العام ، حتى وإن كان بعد الفطنة السياسية أو غيابها كليا لا يؤيد هذه الحقيقة، اللحظات التي لا تقبل العمى ولا الصمم أو الخرس لأنه من ناحية بدون وثيقة تجسد الحدث وتعطيه بعدا ماديا في الفترة التي تلي الحدث فإن تاريخ الشعوب محكوم عليه بالفناء و النسيان ومن ناحية أخرى بدون وقوف الشاهد جنبا إلى جنب مع الفاعلين المباشرين في الحدث وبدون اضطلاعه أيضا بدور الناطق بلسان الفاعلين فإن ذلك التاريخ لن يكون له ورثة وقرطاج كما يراها المؤرخ تاسيتس ليست قرطاجنا كما أن ماضي العرب بدون عيون ابن خلدون ما كان ليجد له فينا من وارث
هذا يعني أن العدالة التي تسلخ بوكدوس وأداة تصويره من سياقهما ترتكب خطأ السهو في شأن الشعب وحق الشعب المشروع في توثيق صوته وتاريخه ولو استندنا لتاريخ الشعوب الأخرى وذكرنا على سبيل المثال مارسيل كامي وجان رونوار ومارك هارمن ، من بين أسماء عدة على قائمة الكاميراوات العمالية الأممية فإن الملاحظة الأولى التي تستوقفنا هنا هي أن لا أحد من هؤلاء كلهم تم جلبه أمام المحاكم أو تعرض لأدنى لوم أو تأنيب بسبب كونه مثل جزءا لا يتجزأ من النضال التاريخي العمالي ونفس الملاحظة تنطبق في مجال التوثيق الأدبي. ففيكتور هيجو يدرس في العالم أجمع وفي بلادنا كرائد للنص الإجتماعي، قصيدة أو رواية، يشجب الحيف والإقصاء ويسمي بلا لف أو دوران فاعليه السياسيين وشاهد "الكهوف في ليل" أو كاتب "البؤساء" ،حتى وإن لم يكن من المتعاطفين مع الكمونة، أو رفض الإنخراط في هذه الحركة، يعد شاهدا ملتزما وغير محايد فيما عاشه من أحداث القرن التاسع عشر بفرنسا. وزولا بدوره ماكان ليكتسب من الشهرة ما اكتسب لولا "جارمينال" أبرز عناوين الأدب الإجتماعي، وما كان لزولا أن يخط سطرا واحدا في هذه الملحمة العمالية لو لم يكن قلبه مع العمال. وليس أدل على هذاالتلاحم بين الشاهد المبدع الذي كان صحافيا في بداية مسيرته مع القلم والفاعلين على الركح العمالي من تلك الحشود العمالية التي وقفت بالآلاف في موكب دفنه وهي تهتف: " جارمينال، جارمينال" وكأن الأثر الأدبي الذي صور ملحمة عمال المناجم بفرنسا قد طفا في تلك اللحظة بالذات على غيره من العناوين -وكم كانت عديدة- التي خلفها إميل زولا. وردا على هتاف تلك الجماهير، قال أناتول فرانس وهو يؤبن الكاتب: لقد جسد لحظة من الوعي الإنساني
الفاهم بوكدوس يجسد بدوره لحظة من ذات الوعي وهو حي بيننا بل أكثرنا حياة مع كل ما يكتنف صحته من مخاطر، فهو الشاهد على جارمينال تونس الذي خرج من أحشاء الوطن والمناجم وليس من مخيلة فنان أو مفكر، وهذا الشاهد لا يطالب بتكريمه كمن سبق ذكرهم ولا بنيل تشريفات أخرى تقر له وهو حي بنبل النضال والأداء الصحافي ولكن ليس أقل أحقية بالتكريم والتشريف لأنه يجسد هذا النضال المشروع حتى وهو في السجن، نضال يستند في قداسته لتاريخ الصراعات العمالية التونسية منذ انطلاقتها مع المرحومين محمد علي وفرحات حشاد
وإذا أبت السلطة أن تقر بهذا الواقع فعليها أن تذعن على الأقل لرأي العقل البشري. حين توضع أمام خيار الحياة أوالموت المؤجل لمواطن ليس أمامها حل وسط لتفادي معضلة القرار. الخيار الأوحد المشرف والعادل هو إطلاق سبيل الفاهم بوكدوس ولا نجاة بدونه
أ.عامري
2010.07.22
مترجم
النص الأصلي بالفرنسية