Affichage des articles dont le libellé est حشيشة رمضان، زلابية، مزاج سيء، سوق جارة، رمضاء، رمض، تحميش، طابور. Afficher tous les articles
Affichage des articles dont le libellé est حشيشة رمضان، زلابية، مزاج سيء، سوق جارة، رمضاء، رمض، تحميش، طابور. Afficher tous les articles

jeudi 14 avril 2022

حشيشة رمضان

 

 

حشائش رمضان التي تدخل في إعداد الوجبات الشهية للإفطار عديدة، ولكل واحدة منها شذاها الفواح ونكهتها الخاصة. ولا حاجة للقول إن ما يجمع بينها هو استهلاكها على مائدة الإفطار. لكن هناك حشيشة لا تخضع لهذه القاعدة، لأنه لا نكهة لها، ولا لون، ولا طعم، إلا إذا فرضت عمن ابتلى بها أن يقضمها في عز الصيام! فهي من الصيام تولد وللصيام تُرَدُّ. ولا شذى لها ولا حول ولا قوة إلا إذا تلازمت بالإمساك عما فاح حتى تغشى من الفوح البصيرة.

هذه الحشيشة "السائغة" والتي لا يعرف جبروت سلطانها إلا نخبة من الصائمين، يسميها المغاربيون بـ"حشيشة رمضان".

نسيت من الأحداث ما لا يحصى ولا يعد، وقد كانت أيام وقوعها مهيأة لتخلد وتكون من أثافي الذاكرة، وشواهد الماضي، ناتئة، ناصعة ولا يعلو فوقها غبار النسيان. نسيت من هذا القبيل أحداثا سعيدة وأخرى أليمة، وغار في سراديب الزمان ما كان يُعَدُّ أطلالا لا تطويها ضلال الأيام أو عمى الوجدان. ولكني لم أنس، ولن أنس قط فيما أعتقد، ذلك الفاتح من رمضان الذي مرت عليه حقبة وما يزال حاضرا في ذهني كما لو أنه حدث بالأمس فقط.

لست أدري كم سنة مرت على ذلك اليوم، لكنها بالأكيد سنون وسنون. ومما لا شك فيه أن ذلك الفاتح الذي أقبل علينا ذات منتصف صيف قد جسد بكل أحقية المعنى التأثيلي لكلمة "رمضان". فقد كان يوم رمضاء، وأرجو ألا أرمى بالتجديف، لو قلت فيه ما يتندر به أهل الجريد حين يصفون يوما تصل فيه الحرارة أو تفوق الــ48 درجة في الظل. هم يقولون عندئذ أن الله يفتح يومها فرن جهنم ليتفقد سعيرها! وقد كان ذلك الفاتح من رمضان على نحو يوحي باستحضار هذه النكتة.

أي جنون دفعني لأن أهجر في هجير النهار البيت الظليل ومتعة التثاؤب أمام تلفاز استحوذ حرمي المصون على جهاز تحكمه البُعادِيِّ منذ وقعت تونس في حب "راكال"[1] ؟ ما الذي جعلني أطرد نفسي من هذه الجنة تاركا للأطفال وأمهم متعة التقليب السريع على هواهم بين أفلام هوليود ومسلسلات المكسيك ووصفات الإفطار التي تفوح من كل قناة؟ بالأكيد لم أكن ملهما بالشكل اللائق في هذا الفاتح الكريم لأخرج من البيت وأقصد السوق، ولكن هذا ما وقع بالفعل. ودون إطالة، كنت أتوقع أن أجد سوق جارة في قابس خاليا وأشبه ما يكون بالربع الخالي في شبه الجزيرة العربية. لكن، وللأسف الشديد، أخطأت التقدير. إذ حالما تمكنت من وجود مربع خال أوقفت فيه سيارتي، وقطعت فضاء الحي التجاري باتجاه السوق، فإن " شبه الجزيرة العربية البتراء" الذي توقعت معاينته في السوق صدمني بمشهد أقل ما يقال فيه أنه كان مرعبا. فبرغم سعير الجحيم، الانطباع الذي كان يعطيه السوق، دون مغالاة، لا يبعد كثيرا عن مشهد مكة في طواف الكعبة! السوق مَنْمَلَةٌ بشرية تفور دبيبا حيثما ساقتك الساق، ولا يقل رمض الدبيب عن رمض الهجير، فالكل في هذه الحشود الطائفة منقض، غائر، مطبق على محلات التجارة وواجهات العرض، والكل تائه في عناقيد بشرية تتموج مِنْ كلِّ حَدَبٍ وصَوْب، لا هم لها سوى التَّمَوُّنِ بكل زاد، وبِحَمِيَّةٍ تخال معها أن البلاد على أهبة حرب ستأتي على الأخضر واليابس من مخزون قوتها.

قلت في نفسي: "يا لني من محظوظ! فليس لي ما أقتني سوى شيء لا يذكر." وإحقاقا للحق، كان الحال كذلك قبل دخولي السوق. فمنذ يومين فقط، تحسبا للزحام والازدحام اللذين يطبعان سنويا الفاتح من شهر الصيام، تسوقت وزوجتي في ظروف أكثر راحة، واقتنينا كل ما يلزمنا دون عناء يذكر. لكن مهما كانت الحيطة، ثمة دوما شيء ما ينقصك في هذا الشهر الفاضل، ويفرض عليك أن تقتنيه حالا إن كنت من "الذواقين"، لتكفر عن السهو الذي انتابك فنسيته سابقا. وهذا السهو لا يفصح عن نفسه إلا عند السؤال الكبير الذي يطرح على شورى العائلة: "ما ذا ترغبون في أكله هذا المساء؟"

في ذلك الفاتح الكريم، "الذواقون" كانوا أطفالي رغم أنهم لم يبلغوا بعد سن الصيام. وكان اقتراحهم أن تعد لهم أمهم ضمن ما اشتهوا طبق الحريرة اللذيذ الذي دخل المطبخ التونسي عن طريق المغرب الشقيق. وعندها، انتبهت الأم الى أن الكزبرة التي لا تستقيم الحريرة بدونها تعوزها. ولا مجال لإرضاء الذواقين دون هذه العشبة الفريدة في نكهتها. ولأن "الطفل المتسوق" في شهر رمضان هو والد الأطفال، لم أجد بدا من أخذ القفة والذهاب بحثًا عن الكزبرة. 


 

في الحقيقة، كان بإمكاني الحصول على هذه العشبة على مرمى حجر من منزلي، في واحد من تلك المتاجر المحلية الصغيرة التي برغم ما نشكو من أزمات وبرغم مراثي التجار، تزدهر في جميع الأحياء من حولنا. غير أني، في هذا الفاتح من شهر الصيام، قمت برحلة إلى سوق المدينة الكبير، على أمل أن أقتل ساعة أو ساعتين من اليوم، لشدة ما كان منهكا من حيث ارتفاع الحرارة التي اتسم بها.

لكن الوقت في سوق جارة اتضح أنه لا يْقْتَلُ بقدر ما يَقْتُلُ. فتحت أشعة الشمس الحارقة، أول ما انتابني من شعور يحاكي حالة سكر تولدت من هذا الانغماس لحد الذوبان في الحشد. وإذ يؤكد القول المأثور في تونس أن "الشنقة مع الجماعة خلاعة"، فلا أعتقد أني عشت سابقا ولا لاحقا "مناولة روحية" من هذا القبيل كتلك التي عشتها في "طوافي المكي" لذلك اليوم. فقد كنت مُضْنًى من شدة الحر، وكنت أحس أن الجفاف الذي انتاب فمي ولساني قد حول هذا الجزء من جسمي لكارتون يلوك إشعاعه ولا يقوى على لفضه أو ابتلاعه، في حين كان جلدي يتصبب من العرق أو من فوران الدم في عروقي. ولم أجد مهربا لي سوى الاندثار كليا في الحشد المتجول. أصبحت أشبه بظل لنفسي واهنا، تائها بين الظلال، وبالكاد واعيا بتحديد الوجهة التي تحرك خطواتي. ولم أتفاجأ بأن أجد نفسي أقلد حركات من حولي وإيماءاتهم، ملتصقا كالحبة في العنقود بكل ما حوته العناقيد من بشر، حيثما طافت بين الأجزاء المغطاة من السوق وأكشاك الشوارع، لدرجة نسيت معها أنني كنت هناك بشكل أساسي من أجل "ربطة" من الكزبرة، وما عاد لي تقريباً هم أكثر من قبيل قتل الوقت.

في الحقيقة، أي شخص يجد نفسه عالقًا في مثل هذا المد البشري سوف يُعْذَرُ مثلي إذا نسي سبب وجوده هناك!
وحتى أفتح لي معبرا بين هذا السيل اللامتناهي من الطوافين، كان لزاما عليّ أن أدفع من حولي بالمرفق وبشكل متواصل يمينًا تارة وتارة يسارًا، كمن يشق حقل قمح تراصت سنابله، فالناس مندفعون إلى جميع المعروضات تقريبًا، وكانوا يتدافعون أمام كل بقال، وكل مزاد، أو صياح تشهيري لبائع، لهم فيه مغناطيس لا يقوون على صده، وهو ما زاد من تضخم الحشد، أو قل الحشر. ولأن البعض، وحتى الكثيرين، بسبب "حشيشة رمضان" الملعونة، لديهم مزاج صَفْراوِيّ ينم عن الشكاسة، لم يكن من غير المألوف رؤية أناس يصرخون على بعضهم البعض، في أبسط مظهر ممكن في العالم، لو صح القول، بدون مراسم! أحيانًا يصدر الصياح عن تاجر غمره الحرفاء أو حريف في عجلة من أمره، وأحيانًا يصدر عن سيدة محصورة بين سلتها و"الكماشات" البشرية التي لا تريد إطلاق سراحها، وقد يصدر حتى من ضابط شرطة البلدية أو مراقب الأسعار أو مفتش الخدمات الصحية أو تاجر مذنب بارتكاب هذا الانتهاك أو ذاك. بل ويتعالى الصياح بين شخصين أو أكثر في الحشد، لأولوية لم يتم احترامها، أو تدافع أخرق، أو مجرد تفوه بنعم أو لا اعتبر في ظروف كتلك بمثابة الإهانة.

هذا ما يسميه التونسيون " حشيشة رمضان". بشكل عام، وخاصة خلال الأيام الأولى من الصيام، فإن هذه الحشيشة، بكل نضارتها، تعطر الهواء، وتصبح مثيرة بشكل لا يقاوم، وتضيف حتمًا إلى ديناميكية السوق! كل "حشاش" بما يشكو من حرمان مخدره ينضح: افتقاد التبغ والقهوة والشاي والكحول، يتحول لمثير شرطي للغضب لأدنى ذريعة عند من له القابلية للتأثر بهذا الإفطام؛ وفي سوق جارة تزدهر بشكل خاص حشيشة رمضان، لدرجة أن السوق القديم، الذي اشتهر بأنه من أكثر الأسواق حيوية، حاز على ولاء لا فقط هذا الصنف من الحشاشين، وإنما أيضا ولاء المستمتعين بهذا "الكيف". فالصنف الأول يؤم السوق لإفراغ شحنة سمومه في انفجار علني يعفيه من إفراغه في البيت، في حين أن الصنف الثاني يجد في الفرجة فرجا له، قلما تتيحه أفلام الشاشة الصغيرة أو غيرها من وسائل الترفيه. والمتفرجون الذين يؤمون لهذا الغرض سوق جارة، لا نغالي إن قلنا عنهم أنهم يحجزون أماكنهم من الظهر في الفضاءات التي تشهد أكبر نسبة من تدفق المتسوقين. فبقدر ما كان الصوت أعلى وأَحَدَّ من جانب الصنف الأول، بقدر ما كانت تعلو نسبة المرح والمتعة في الجانب الثاني. وفي بعض الأحيان، إذا لم تَرْقَ مباريات الصراخ من تلقاء نفسها إلى مشاجرات، فإن الكثير ممن ينتمون للصنف الثاني يشعرون ببعض من الامتعاض، بل وبالإحباط. فهم يحجزون أماكنهم منذ ساعات الظهيرة الأولى لمشهد يودونه أرقى وأمتع. ولذلك هناك دائمًا بعض المتطوعين، أرواح مسلمة طيبة للغاية تتوسط بين الأفواه التي يسيل لعابها ويتناثر، لسكب الزيت على النار حتى تكشر تلك الأفواه عن أنيابها. وبدلاً من تهدئة الحالة المزاجية المتفاقمة، ترى "أصحاب الخير" هؤلاء يشجعون قدر الإمكان على إضفاء المزيد من التوابل على الحشيشة الرمضانية، لإضافة المزيد من النكهة المثيرة، وشحن الحشاشين بالمزيد من الحماسة والرجولة.

في ذلك الفاتح من الشهر الكريم، رغم أني ذو طبع تصالحي ولا تسعدني بالمرة رؤية أناس يتشاجرون من حولي، قدر لي أن أكون محرضا على شجار غير عادي، معركة لا تنسى وما يزال وخزها يؤنب بحدة ضميري لهذا اليوم.

ولكن قبل أن أضطر للعب هذا الدور المشين، وهو دور ما كنت أرضى أن ألعبه، ويجب أن أقر بذلك، لولا سم "الحشيشة" الملعونة التي عصفت بمخي وجعلتني أتنكر في لحظة فارقة لطبعي المعهود، كان علي أولا أن أتمم مسيرة "الطواف".   

وحتى لا أطيل، أقول إني لا أعرف كيف، قبل أن أعثر في طريقي على عشبة الكزبرة التي استدعت طوافي المقدس، ثقلت موازين قفتي -بين لحظة تيه وما تلاها- من حيث لا أدري، ثم امتلأت هذه القفة حتى فاضت بمشتريات لم تكن قط في الحسبان. مشتريات بسيطة، هكذا بدت لي في كل مرة، فرضت نفسها بقدر ما ناداني اليها كر الحشد وتهافته، وما كان لي خيار فيها لأن "الحشيشة" هي من اختارت وقررت واشترت! وربما اضطررت إلى الخضوع لما يسميه غوستاف لوبون "إغماء الشخصية الواعية"[2]، بعد أن أصبحت خاضعًا لنفس الميكانيزمات التي تسير من حولي أمثالي، غير قادر على تخليص نفسي من التيار المغناطيسي الذي يوجه طوافهم البار. لقد أصبحت أشبه ما أكون بحاج يحقق الركن الخامس من دينه، مع فارق وحيد، لا أكثر، بدلاً من أن تنجز طقوس الحج في مكة وحول الكعبة، جارة وسوقها هما اللذان تحولا في ذلك الفاتح الكريم لأماكن مقدسة!   

"رمضان كريم! رمضان كريم!": تلك كانت صيحات "التلبية" في أفواه التجار، تسمعها من كلّ حَدَبٍ وصَوْب. وكل بائع يريد أن يكون أكثر خدوما من جاره، متفانيا في خدمة الشهر الكريم، مستبقا رغبتك فيما تحب ولا تحب، وإذا لزم الأمر، فهو يُحظيك بسعر خاص لا يتمتع به إلا "سيد الرجالة"، بل فوق هذا، هو يزن لـ"سيد الرجالة" ما زاد عن الرطل أو قارب الكيلوغرام مما بالكاد يخطر في بال "سيد الرجالة". وقبل أن يفتح "سيد الرجالة" فمه ليطلب تخفيضا في الوزن، يكون البائع الخدوم قد كلف نفسه عناء الوزن الوافي، واختطف منك القفة حتى لا تشقى بوضع المشترى فيها! وفي ذات الوقت، جار ذلك البائع، على يمينه أو شماله، يكون قد تهيأ بدوره ليلتقفك وقفتك لِمُشْتَرًى جديد حدده وبدأ في وزنه بعد أن أقسم لك، وهو يضع يدا خلفة، أنه "خَلَّالَكْ خمسة الْتَالِي! "، أي خصم لفائدتك خمسة من السعر الأصلي..  فماذا عساك تقول أو تفعل، والحالة تلك، يا "سيد الرجالة"؟ 

 لا شيء سوى الإقرار بأن رمضان كريم، وهداياه لا ترد.

ولأنه لم يعد بوسعي أن أحمل القفة تحت لهيب الشمس المتوهجة دون الاضطرار لجرها من حين لآخر، بات لزاما علي أن أوصلها للسيارة. ولم تكن تلك المهمة بفسحة يطيب لها الخاطر، برغم أنها خلصتني لحين من أتعاب الزحمة. فسيارتي كنت قد ركنتها على بعد 500 متر على الأقل من مركز السوق، مما استوجب توقفي لأكثر من مرة لاسترداد الأنفاس وإراحة المفصل الذي كل واعتل جراء حمل فوق الطاقة. لكني في كل الأحوال حمدت الله على الوصول وأنا ما أنفك ألهث، ولما أفرغت حمولتي في الصندوق، ما كنت أقوى على الرجوع للزحمة ومواصلة الطواف العسير حتى لو كلن ذاك العناء سيمحو كل ذنوبي، لولا "ربطة" الكزبرة اللعينة التي لم أقتنها بعد.
 

لكن حتى أصل لــ"بلاد" الكزبرة في سوق جارة، كان علي أن أشق، فضلا عن الحشود الغفيرة، سوق السمك. ولكم أن تتصوروا صعوبة العبور بين صفين من الأكشاك دون أن أبدي أدنى حساسية تجاه ألف "رمضان كريم" يضايقني من جميع الجهات. والأدهى والأصعب هو الصمود أمام ذاك الكم من الخياشيم الدموية التي كانت تفتح من أجلي، والعديد من الزعانف الذيلية التي بدت لي لشدة غضاضتها وكأنها تختلج تقريبًا بين جزيئات الجليد. ومع هذا، تماسكت وقاومت، شاكرا لكل فم رمضانه الكريم، حتى كدت أبلغ المخرج، لكن آخر خطوة لي في سوق السمك تثاقلت ثم أوقفتني لأقول لنفسي أن بعض أسماك الصبارص كخاتمة للقفة ستسعد حتما زوجتي. كنت أفكر بالخصوص في شربة اليوم التالي أو اليوم الذي يقرره الأطفال لوجبة حساء بالسمك. ومع أن سعر الصبارص في ذلك الفاتح الكريم لم يكن محفزا على الشراء، أشرت للبائع الذي استبق طلبي وهو يستشيرني إن كان كيلوغراما يكفيني بأن رطلا فقط هو ما أحتاج اليه. لكن الميزان سبق جوابي، ثلاثة أرطال بالتمام والكمال، وقرطاس السمك الذي تم رميه في القفة ما عاد يقبل اعتراضي. دمدمت وهمهمت، في حين كان البائع يعرض علي بسعر لن أجد مثيلا له ما تبقى له من الجمبري، ثلاثة أرطال ونيف تقريبا، لكني دفعت ثمن الصبارص، وقفزت قبل أن أقطع الخطوة الأخيرة لأبحث عن عشبة الكزبرة. ورغم أني لم أته كثيرا حتى أجد ضالتي، إلا أني لم أخرج من السوق في نهاية الأمر إلا وقد امتلأت القفة مجددا. لكن المهم أخيرا هو أني وجدت طريق الخلاص من العناقيد البشرية، ومن الحلقة المغناطيسية للطواف الذي استنفد جسدي وعقلي وجيبي. تمكنت أخيرًا من العودة إلى سيارتي، لاهثا متعرقا ولا أقوى على مواصلة السير، وفتحت صندوق السيارة لأتنفس الصعداء بعد وضع السلة.. فما راعني إلا وعيناي تقعان على قطعة من الكرتون كتب عليها: "بابا.. ما تنساش الزلابية!"

هذه التوصية المكتوبة بقلم تحديد أحمر على لوحة من الورق المقوى الأبيض نطت في تلك اللحظة بالذات أمام عيني، عندما أطلقت تنهيدة ما خلته خلاصي، معتقدا أن الوقت قد حان لأترك جهنم لأصحابها!

تذمرت بصوت عال، غير مبال بما صدر عني من بعض الكلام الذي قد يفسد للصيام شيئا من روحه. لكني لم أكن سعيدًا على الإطلاق بنطة الكرتون وما جاء فيها من أمر. لا لأنني أنفقت من المال ما فيه الكفاية في هذا الفاتح الكريم، ولا لأني استنفدت كل حيويتي وما عادت لي طاقة لأداء "طواف" ثالث، ولكن لأن الزلابية في قابس،
بالنسبة لذواقيها أو للذين يدللون ذويهم، لها عنوانان فقط، محلان استأثرا دون سواهما بالصيت المسمى "نقشة معلمين". وهذان المحلان تجاوزت شهرتهما حدود المنطقة، إن لم يكن البلد: السحار وونان، الطوق الحقيقي للتخصص، وكلاهما غير بعيد عن جزام السوق. لكن الشهرة لها ضريبتها، فمن يود الحصول على "نقشة المعلمين"، سواء تعلق الأمر بالسحار أو بونان، لا مناص له من الوقوف في طابور وتسليح نفسه بكثير من الشجاعة حتى ينال مبتغاه.

ما كان علي حينئذ غير التحلي بالصبر، بعد أن قصدت أقرب الزلبابين: "ملذات وَنَّانْ"، وفق ما تقوله يافطة المحل. ولمدة لا تقل عن ثلاثين دقيقة، كنت في صف الانتظار أمام المدخل، أي تحت أشعة الشمس الحارقة، والطابور يكاد لا يتقدم إلا بما يعادل خطوة النمل. ولما استطعت الولوج لداخل المحل، وجدت صفا آخر ملتويا في شكل دبوس شعر، لا يقل طولا ولا تراصا عن الصف الخارجي. ورغم أن المكان قد يوحي بادئ ذي بدء لداخله أنه ترك الشمس ولفحها خلفه، فإن الهواء الساخن والمشبع بدخان زيت القلي وابخرة العرق المتصبب من جلود المصطفين، وقتار الأفواه التي أحرقها الصوم، لا توحي بأن الفضاء الداخلي لــ"ملذات ونان" أكثر راحة من الفضاء الخارجي.

لا عجب، والحالة تلك، أن تتعرض أعصاب البعض لامتحان قاس ولا تقوى على مجابهته بما أوتيت من صبر. ففي منتصف الصف الملتوي كحية في جرة، وتحديدا في ثاني التعاريج التي أقف خلفها، كانت هناك سيدة لم تتوقف عن التذمر منذ دلفت لداخل المحل. وهي امرأة جسيمة البدن، عريضة الكتفين، قد يحسدها الكثير من أبطال المصارعة الذين نراهم على شاشة التلفزيون، ولا أدري إن كان لباسها قد اختير لتناسقه مع البدن المهيب، فقد كان خليعا لحد ما، ولكن الثابت أنه أضفى على السيدة طلعة الرُّعْبُوب مع زيادة في الحجم تثير الإعجاب والهيبة معا. وقد كان لعطفة الطابور الذي وجدت نفسها فيه تأثير خاص على مزاجها، لأن المنحنى ضيق من ناحية، لا يريحها بالمرة، ومن ناحية أخرى، لأنها وجدت نفسها في كماشة تسلط عليها ضغطا شديدا من أمامها ومن قفاها. ويجب التأكيد عليه، خاصة من قفاها. فقد كان وراءها رجل كثير التململ، ولا أغالي لو قلت إنه كان ينشر ظهرها كما لو كان منشارا. وفي حقيقة الأمر، لأن هذا الرجل كان بدوره بين فكي كماشة، وكان يحمل على ظهره جرابا كبيرا، فإن هذا العبء الثقيل على ما يبدو جعله يتأرجح باستمرار، يسارًا ويمينًا. سيما وأن قصر قامته من ناحية ونحافة جسمه كانت تزعجانه لحد كبير، إذ لم يكن متاحا له في وضعيته تلك أن يتنفس بسهولة. ولذلك ما انفك يقف على أطراف أصابعه، باذلا قصارى جهده لدفع رقبته نحو متنفس يقيه من الاختناق، في حين كان لجرابه وثقله تأثير عكسي على كل ما يسعى إليه في هذا الصدد. فما يكاد أنفه يتجاوز مليمترا واحدا كتف السيدة المذكورة حتى يغوص ثانية تحت ضغط الجراب. باختصار، هذا السيد الذي ربما أراد أن يبدو كفتى كشاف بريطاني في إجازة بأرض الياسمين، كان يعطى الانطباع بأنه يرقص مثل عقرب الثواني في ساعة معطوبة تجمدت عقاربها الأخرى! ولأنه كان يحمل أيضًا جهاز استماع (Walkman) لا يرى منه غير السماعات الموصولة بأذنيه، فإن حركاته المنشارية و الزُّنْبُرُكية، التي تتواتر بشكل إيقاعي إلى حد ما، كانت تقصي لأبعد خلفية كل ما كان من شأنه أن يمنحه عذرا في تقدير المصطفين خلفه. ففي نظري شخصيا كما في نظر كل أولئك الذين يرونه يتمايل ويتأرجح على أنغام سامباته، لم يكن هذا الشخص أكثر ولا أقل من "زوفري"[3]، "زوفري مقطع"! وفق التعبير الدارج في تونس، ولا يرى حرجا في إطلاق العنان لطربه في فضاء تجاري محشور بالناس! لا ريب أن ما يجعله غير مهتم بالانطباع السائد عنه حوله هو "النوبة" التي تخمره بذلك الشكل! ولكثرة ما تململ وتثنى وتمايل على هذه الساق أو تلك، فقد بدا بصراحة مبرما، مثيرا للأعصاب. لا فقط في نظر السيدة التي تعاني من ارتدادات تموجاته المسترسلة، ولكن أيضا في عيون كل هؤلاء "الصائمين الشرفاء"، بمن فيهم "العبد لله" الذي يروي لكم هذه الواقعة. فقد أصبحنا كلنا، برغم أنفنا، شهودا على عرض افتضاحي (scène d’exhibitionnisme)! نعم، هو ذاك بعينه! وما هو أدهى، أن يحدث ذلك يوم الفاتح المبارك لشهر رمضان! فغض النظر عن فجور كهذا، هجوم بتلك الشراسة على الأخلاق الحميدة، يعني تكريس الصوم، والروح، والتقوى، لا سمح الله، للشيطان الملعون! علاوة على ذلك، كنا نرى بوضوح كيف أن السيدة المسكينة، التي تحملت أكثر ما يطاق من عجن منهجي تعرضت له منحنياتها، "تطلب بعض الضوء الأخضر" من الجمهور الشاهد على هذه الرعاعة وسلوكها المشين، لتضعها للتو في مكانها. فقد كانت تتقلب وتدير عينيها وتهز رأسها بسخط! وبما أن عيني المسكينة، في تلك اللحظة بالتحديد، قد التقتا بعيني، فإن صوتا علا وأرعد على الفور، مستنكرا، غاضبًا، لتذكير السيدة بواجب رد الفعل المناسب. "ما تبقاش خرسا يهديك!" وما كان من السيدة إلا أن تنفجر حينئذ، صارخة مرتين: "هيا، فك على بويا وأمي!" وفقط من خلال سماع صراخها بصوت عالٍ وخشن، تأنى لي أن أدرك من الذي دفع السيدة الطيبة إلى التصرف بهذه الطريقة! كان "العبد لله" الذي يروي لكم هذه الواقعة!

مما لا ريب فيه أن اللجوج قد التقط بسمعه، مخترقة نوبته الهازجة، التوصية التي شحمت حنجرة السيدة وصوتها. فقد حاول أن يلتفت ليرى من أين صدر التحميش، غير أن محاولته لم تجد نفعا لأن الجراب وقع كالمطرقة على رقبته، في حين ارتفع صوت آخر من خلفي ليضيف: "يحق للمسكينة أن تثور! " وعندها، الغبي الذي اندك تحت جراب الكشاف، لم يدر ما عساه يفعل حتى يجلو عن عنقه ما أصبح شبيها بالأغلال، هل ينشر أفقيا منحنيات السيدة، أو عموديا ينشر ضهرها.

أومأ "العبد لله" الذي يروي لكم هذه الواقعة برأسه، موافقا مائة بالمائة الصوت الذي وقف منذ حين في صف المرأة، وكذلك التحميش الذي صدر عنه شخصيا. ولقد بدا واضحا أني لم أكن الوحيد الذي يعتبر مخجلا، بل عارا أن يتصرف ذلك الشخص المستهتر، في ظرف كذاك، بتلك الطريقة، دون أدنى حياء! فمجرد نظرة خاطفة لمن خلفي كانت كفيلة بإقناعي أني كنت محقا في سخطي على هذا الوغد. "ملا مهراس! " (يا له من مهراس!") قلتها، وبصوت عال، وأنا أرى بأم عيني هذه المرة أن الوغد يتحرش صراحة بالسيدة المسكينة!" أي، والله! يطبطب براحة يديه على قفا المرأة! دون حشمة وعلى مرأى من كل الحضور.

وتبعا لذلك، كل من عاين ذاك الفجور صاح فورا: يا له من وغد!

"ما يحشمش.. ملا طجان!" هذا الاستنكار أتى بصوت من يقف خلفي مباشرة. وكلمة "الطحان" بمعناها الدارج في تونس لا تفيد المعنى المتداول بالفصحى، بل هي زراية لا تصدر إلا في حالة انفجار قصوى لغضب ناطقها. وقد صحت بدوري، وكأني أترجم لكافة العرب معنى "الطحين" في تونس: "طحان وقواد! " ومما لا ريب فيه أن هاتين الكلمتين السوقيتين لحد ما قد دغدغتا حليماتي اللسانية بشكل جعلني لا أقوى على كبحهما تعبيرا عن فيض من الغيظ. وقد استدارت السيدة مرة أخرى ووجهها محتقن. وما كدت ألمس التعبير المرعب لعينيها الذي بدا وكأنه يفجر زجاج نظارتيها، حتى قلت في نفسي: المشاجرة آتية ولا مناص منها! وكنت أكاد أفرك يدي لشدة ما أرغب في رؤيتها وهي تستغل على أفضل وجه ما حباها الله به من سمات توحي بالقوة والهيبة!

- هيا باش اتفك على أمي وَلاَّ لاَ؟ (أتراك ستكف عن إزعاجي أم لا؟)

ولأن السيدة اكتفت بهذا التأنيب، في حين أن أكثر من واحد من الحضور ود لو يتصاعد أكثر عبق الحشيشة الرمضانية، لاحظ أحدهم، وقد بدا من نبرة صوته أنه كان منزعجا قليلاً، أن المرأة الشريفة لا يمكن أن تظهر مثل هذا العمود الفقري المرن في مثل هذه الظروف!

لا أعتقد أن من تفوه بهذا الكلام يمكن أن يكون "العبد لله " راوي هذه الواقعة. رغم أن... ...!

- أنا في بلاصتك يا مدام (هذه المرة، أنا متأكد أن الصوت صوتي: لو كنت مكانك سيدتي)، كنت نجبدلو أوذانو المبلي هذا باللي آش ايقول فمي، واللي يستخايل في روحه عتروس(لفركت أذنيه لهذا المبتلى بما لا يسع فمي قوله، والذي يتصور نفسه تيسا)...

لا أدري أي ذبابة لسعتني في ذلك الظرف بالتحديد حتى أصبح بين دقيقة وما تلاها سوقيا لهذه الدرجة. لكن اللاسع الحقيقي ما كان غير "حشيشة رمضان"، تبا لها!

ما كاد اللجوج يلتقط بأذنيه ما تفوهت به في حقه حتى استدار، منقبا بعينين محقونتين بالدم عمن وصمه بتلك النعوت، وهو يصيح بلسان فرنسي ولكنة باريسية: "De quoi j'me mêle, pauv'mec à la noix ? "، أي ما معناه تقريبا: "أما كان أفضل لك أن تترك ما لا يعنيك أيها البائس الحقير؟ "

أيها البائس الحقير؟ أحسست بدمي يفور ويغلي كالزيت في المقلاة.. في مقلاة الزلابية! (حتى يكون التشبيه بليغا). وخيل لي أني أرى الحشيشة الملعونة "تعجعج" من حولي كمبخرة يختنق من دخانها الشيطان والجان. لا، بل سمعتها بأم أذني وهي تهش عفاريت غيظي وتهرشها على اللجوج الفاجر. وشعرت بأن مزاجي في تلك اللحظة كفيل بأن يجعلني ألتهم هذا "السردوك" (الديك) دون الحاجة لنتفه! لكن في ذات اللحظة التي استطعت فيها الخروج من الطابور لثني عضلاتي وشد قبضتي كتعبير برقي وددت إبلاغه لمن نعتني بـ"البائس الحقير"، ما راعني إلا وأنا أرى مرفوعا من الأرض، بقبضة حديدية تشده من حزامه، ذلك "السردوك" الكشاف وجرابه! ولكم أن تتصوروا بهتة الحضور الذين حبسوا أنفاسهم، غير مصدقين لما يرونه من "إنجاز رياضي" يليق بـأولمبياد أممية! "سردوك" بريشه وجرابه يرفع في السماء بقبضة واحدة، ويتلوى كما لو كان بين مخالب دب ذي نظارة، في حين كنت أصيح: "يعطيك الصحة يا مدام. يرحم الام اللي جابتك!"  

وعلى الأرجح أن السيدة الفاضلة ما كانت تنتظر إلا علامة حماسة وإسناد من هذا القبيل لتكمل على أحسن وجه الدرس الذي يستحقه الفتى الكشاف. فبعد أن دكت به الأرض دون أن تخلي سبيله، صفعته مرة أولى على الخد الأيمن، ثم ثانية على الخد الأيسر، ثم ركلته على قفاه ركلة أخرجته من المحل وتبعته وهي تصيح: " Castor (يا قندس) روح قود بعيد.. ما فيش زلابية الليلة!"

غاب "القندس" عن الأنظار متبوعا بـ"الـمصارعة" التي يبدو أنها لم تنه بعد حسابها معه. وطوال النصف ساعة التي قضيتها وأنا أدب كالنملة لأصل لكنتوار الزلباب، ما انفككت أردد: يرحم الأم اللي جابتها.. يعطيها الصحة! " ولشدة ما لهج لساني بهذا الدعاء-المديح، لما وصلت أمام الزلباب وسألني ميزان ما أريد، قلت: "والله عل خاطرها كيلو ونصف! يرحم الأم اللي جابتها.. يعطيها الصحة! "

بعد أن وزن الزلباب الأرطال الثلاثة وقبض الثمن، لم يتمالك من لومي بمرير العبارة: "يزي من الكلام الفارغ، يهديك.. ما تمجدش هالسلوك المشين..."

-         تقصد سلوك هالسردوك المريش؟

-         لا، يهديك، سلوك مرته!

-         مرته؟ اش تحب اتقول؟ المرا هاذي زوجة السردوك؟

-         ايوة سيدي! "

خرجت فاغر الفيه على ما أعتقد، وجبيني يقطر عرقا.. هذه المرة، ليس من رمض الفاتح لشهر رمضان...

 

مر على هذه الواقعة ما يزيد عن العشرة رمضانات. ولم تطأ قدماي منذ ذلك اليوم لا محل ونان ولا محل السحار ولا أي متجر جاور زلبابا. وكلما قصدت السوق وطلب مني الأطفال أو أمهم اقتناء شيء من الزلابية، إلا وأصيح: لا، لا، يا قناديس ! ما فيش زلابية الليلة!"

 

أحمد العامري

ترجمة لنص حررته بالفرنسية ونشرته على مدونتي بتاريخ:

04. 07. 2012



[1] الممثلة لوسيا مينديز، بطلة المسلسل المكسيكي الشهير "أنت ولا أحد".

[2] Gustave Le Bon, Psychologie des foules, FV Editions, 2013, p. ? (édition gratuite ici ), p.22

[3] "زوفري" كلمة مشتقة من الفرنسية "z-ouvriers" التي تفيد في العامية الأرغوطية "سارق" (وليس عامل). وبالدارجة التونسية تعني شخصا لا ينصح بمخالطته.

 
 

Quand les médias crachent sur Aaron Bushnell (Par Olivier Mukuna)

Visant à médiatiser son refus d'être « complice d'un génocide » et son soutien à une « Palestine libre », l'immolation d'Aar...