lundi 25 février 2013

صنم وأصنام

من أخي وحبيبي فاخر الطريقي، بخصوص تعقيب نشرته على الفيس بوك يوم 19 فيفيري 2013 في موضوع تدمير النصب التذكاري الذي أقيم بالمكان الشاهد على اغتيال الشهيد شكري بلعيد، جاءني هذا الإستفسار: " سي احمد...او بعد إذنك أخي أحمد العامري ... ولي الشرف و أعتز بذالك ...لم أفهم ما دخل المواضيع التي كتبتها على يسري الطريقي في صفحاتك في تلك الملحمة العالمية الرائعة و هذا الموضوع الخاص بتحطيم الصنم التذكاري لمقتل شكري بلعيد ؟؟"


صراحة، أخي فاخر، وأرجو ألا تفسد الصراحة للود سبيلا، لا أرى في مَعْـلَمٍ بسيط يقام على المكان الذي شهد اغتيال شكري بلعيد هذا الصنم الذي يستوجب تطهيرا "مكيا" في تونس. لأن المضامين التي نــحَمّـلُها كثيرا لبعض الكلمات باسم الدين والغيرة على المقدس لا يجوز في رأيي توضيفها هنا ولا يصح إلصاقها بما لا يليق
- ثقافيا ووطنيا- بالسياق الصحيح للنصب التذكاري.. إلا لو تأكد لك ولي على سبيل المثال أن فيمن كان يؤم "الصنم التذكاري" مرضى جاءوا يبغون شفاء من شلل أو برص أو عمى، أو من قاربت سن اليأس بمبخرة تطوف أملا في خلاص من عنس، أو من نحر شاة وثورا ليستمطر ويستنفر بركة الحجر وحوله في قلب "الصنم" المشار اليه. وإن وقع شيء من هذا فعلا، دون علمي وعامة الناس به في الأيام القليلة التي شهدت نصب الصنم، فاعذرني عما قد يبدو لك في ظاهره تهكما ولكنه يود استنفار ما توحي به مضامين الخطاب، وفقط هذا الإستنفار، لا استفزاز مشاعر الأخ والصديق ...

أخي فاخر، أنت مثلي مٌـــرَبٍّ أفنيت العمر في خدمة التعليم وكونت في ميدانك من الأجيال الكثير، وصقلت لتونس من طاقات شبابها ما تشهد به السيرة الذاتية للمربي والممرن على حد السواء، وفوق هذا كله أعطيت أحد فلذات الكبد لما تؤمن أنه في صالح العرب والمسلمين، جمعتني وإياك محنة الإخاء والمواطنة والزمالة والإيمان بقداسة الحق في الحياة لمن رأينا فيه أنه لم ينل
لا كثيرا ولا قليلا  من نصيبه في نزاهة التحقيق وقانونية الدفاع وشرعية المحاكمة..ورغم علمك وعلمي المسبق بأن السياسة في خطك أو خطي قد لا تجمع بيننا لما في هذا الخط أو ذاك من فوارق وربما تنافر، اجتمعنا دون قيد من هذا القبيل ولا حساب او احتساب دنيوي رخيص، في الدفاع عن قداسة الحياة، عن نفس بشرية هي مني ومنك ولك ولي، من تونس ولتونس، من الإنسان وللإنسان، بصرف النظر عما هو بالإسم والصلب منك ولك وحدك..ولست ممن يمتَنّ بشيء على نفسه أو أخيه حتى أعود لهذه المحنة وأطرح في سياق ما طرحت روابط للتدليل عليها لولا سوء الفهم الذي يحصل لدى الكثير ممن لا يعرفني بخصوص مواقفي السياسية، وأخص بالذكر هنا هؤلاء الذين يعيشون في المهجر ويعانون من عداء مقيت للإسلام والإسلاميين، فيتصورون ان الصراع الذي نعيشه في تونس بين إسلاميين وخصومهم هو امتداد لذلك العداء الذي يواجهونه في الغرب، والذي تصديت له
حيثما تسنى لي ذلك، أحيانا عدة بشراسة اللسان وفي أحيان أخرى بصداقات مع غربيين وحوارات وتراجم لموروثنا الثقافي قد لا يتضح لمن يتابعها دون تفكير أنها تخدم غرضا آخر غير ما تحمله الترجمة لكن تأثيرها على المتقبل الغربي والكثير ممن يحملون تصورا خاطئا عن العرب والمسلمين حتى وإن لم يتضح في المدى السريع أو المتوسط، يتجلى بصفة تدريجية فيما يلمس لاحقا من تغير الخطاب معي وتعامل المتقبل لتلك التراجم مع ما أسميه الوجه الآخر للإسلام.. وفي هذا الخصوص بإمكاني ان اقول: لقد دافعت عن ديني وثقافتي وهويتي بالتي هي أحسن.. 

لولا سوء الفهم هذا وتكرّرٍه في عديد المرات بحقي لما كلفت نفسي الرجوع  لنصوص الدفاع عن يسري .. لأنك في مكاني لن تستطيع مواجهة المعادلات المغلوطة،  وكثيرة هي التي يتداولها سجناء الرأي الأوحد في الوطن وخارجه، من قبيل "غير إسلامي= غير مسلم" ، "غير إسلامي=معادي للإسلام"، "يساري=يتيم فرنسا"، "فرنسي اللسان= مُنْـبَـتّ الهوية".. وهلم جرا مما يُـتَـداول كمسَـــلّــمات على صفحات العديد من خصوم اليسار، وهو المخرج الذي توخيته في نهاية المطاف لرفع هذا الإلتباس أو التجني المقصود، ولسان حالي يقول: يا اسلاميين، رجاء خذوا ما لكم ولكن لا تتعدوا عما هو للمسلم ولي أنا بالذات.. وهو ما قصدته في الرد عمن اتهمني بأني "كلب حراسة" ويقيني أنه يجهل حتى مصدر العبارة الأول قبل أن أرد عليه بالكلام الذي استوجب تدخلك للإستفسار عن العلاقة بين ما أشرت اليه بــعبارة "الملحمة العالمية" وسياق "الصنم" المكسور..
 أخي فاخر، في سياق ما جمعنا  منذ الخطوط الأولى، منتصف 2011، لما تـــنسبه لي وهو أكبر من حجمي لأن الملحمة الحقيقية هي ما عشته أنت وعائلتك في تلك الفترة العصيبة، وما كنت فيها من ناحيتي غير شاهد بسيط متواضع حاول كسر الصمت فيما تبين له وفق أكثر من دليل أنه جريمة قضائية ومايزال يراها كذلك ليومنا هذا، ولكن لأن الشاهد لم يكسر صمتا في السابق بخصوص محاولات لصده عن خدمة "السلفية وأتباع القاعدة" - ولن أذكر هنا إلا ما يقتضيه السياق، فيما نشرته تباعا من حقائق ونداءات دفاعا عن الشهيد يسري، أقول إذا كان لي شئ  يستوجب فخري واعتزازي بما قمت به، حتى وإن لم يكلل بما كنا نصبو إليه، فهو، إضافة لثباتي في الدفاع عن الشهيد حتى آخر رمق من حياته، ما لم أنشره على أي صفحة،  باستثناء تعقيبات تتنزل في نفس الدفاع، في ردي عن "أهلي" من اليسار.. لأن سجناء الرأي الأوحد ليسوا من شق واحد، لأن محاكم التفتيش في عقائد السجناء لا تتمايز هنا أو هناك،  لأن لليسار "شيوخ تكفيره" كما في الدين، ولأنني رفضت دوما كل السجون مهما كان حراسها، اينما اضطهد انسان في الأرض لا أقبل اي مبرر للسكوت.. اينما صرخ معذب في الكون وبلغني صوته، استحي ان انام ولا أراه يطاردني  في كابوس الصراخ.. اينما ارتفع حبل مشنقة وكنت شاهدا، حتى لو هلل بالملايين جمهور النحر والجلاد، حتى لو اجتمعت مآذن الأرض والأقراس تبارك النحر، استحي أن أدير ضهري لمن يحاكمني في نظرة الوداع، استحي أن اهرب اوأجاري القطيع في الثغاء..

 
يوم بلغني تنفيذ الإعدام في يسري - وأبنائي شاهدون-  حملت سواد الحداد في قلبي، ونشرت الخبر من واجب الإعلام وبقيت رابضا بالبيت كمن ينتظر العزاء.. وسلواي أنه جاءتني من التعازي على شبكة الفيس بوك وبريدي الإلكتروني الكثير.. وما لم أكسر الصمت بخصوصه أيضا في نفس السياق هو أن من جملة المناشدات التي وضعتها على مدونتي وأرسلتها بالفاكس حينا والبريد العادي او الإلكتروني حينا آخر، لم يردني رد شاف أو صدى يذكر باستثناء رسالة واحدة، جاءت بعيد ساعات قليلة من خروج مراسلتي بالإنترنت، من السيدة فيولات داغر زوجة الدكتور هيثم مناع، وهي رسالة في غاية من اللطف، تؤكد فيها صاحبتها وقوفها وزوجها والهيئة العربية لحقوق الإنسان بجانب يسري الطريقي وعائلته وتطلب مني بعض الإيضاحات واعدة بالتدخل في أقرب وقت ممكن وفق ماهو متاح لها لطلب العفو. لا أعلم إن تم لا حقا تدخل  فعلي من الهيئة المذكورة ام لا، ولكني سجلت بارتياح على رمزيتها هذه اللفتة لأنها لم تأت لا من رئيس حكومة في تونس ولا من وزير عدل ولا من زعيم سني أو شيعي، لا من ذي شارب رجولة طويل ولا من ذي لحية دين أطول أو غيرهم ممن ناشدتهم وصرخت في ضمائرهم بوجوب التدخل العاجل لأنقاذ يسري الطريقي.. جاءت من امرأة تعيش في الضاحية الجنوبية لباريس وتحمل اسم "فيولات" ولقب "داغر"..

وقبل ان أختم ما أردته تعقيبا على "كسر الصنم"، بودي، أخي فاخر، ان اسرد هنا لإنارة المتحاملين على الرأي اليساري في تونس وعموم الوطن العربي الإسلامي ما استحضرته بالذاكرة من مضامين "الصنم" وهو يعود لمناظرة تلفزية وقعت سنه 1981 في فرنسا بين مرشح اليسار للرئاسية حينذاك فرانسوا ميتران ونضيره مرشح اليمين فاليري جيسكار ديستان
الرئيس السابق.. وكانت استطلاعات الرأي قبل المناظرة بأيام قليلة ترشح الأخير لسباعية ثانية.. من جملة الأسئلة التي طرحها ديستان على ميتران بقصد إحراجه أمام الرأي العام في بث مباشر لا يزال لحد الساعة حاضرا في ذهني السؤال الآتي: هل تنوي تكوين ائتلاف حكومي يضم وزراء شيوعيين في صورة فوزك بالرئاسة؟ وكان رد الإشتراكي ميتران كما يلي: لقد كان الشيوعيون مع محاربي شمال إفريقيا والسينغال في الخطوط الأولى من المواجهة مع الألمان وقد دفعوا من الأرواح ما لم يدفعه غيرهم. ولولاهم لما كنا اليوم ننعم  بالحرية. هل تتصور أن الشيوعيين لا يصلحون لشيء آخر غير فوهة المدفع؟

وكان رد ميتران على ديستان  بتلك الــ"يسارية" المباغتة، وعقب جولات بدا وكأنه تقاسمها مع خصمه بالنقاط، مفحما لدرجة أن هذا الأخير ترنح على الحبال..وخسر فعلا انتخابات ماي 81 جراء ما أراده ضربة قاضية لليسار فعادت بالوبال عليه .. وفي سياق ما قلته سابقا عن فيولات داغر، أذكر أنها حين جاءت ضيفة على المؤتمر الذي شهد ولادة الجبهة الشعبية، في أكتوبر 2012،  العديد من أنصار النهضة -دون معرفة السيدة لا من قريب ولا من بعيد- تداولوا على الفيس بوك صورتها وهي جالسة قرب بعض من رموز اليسار معلقين على "السافرة" بل و"الفاجرة" التي لا تستحي من الكشف عن شعرها وهي قد فاقت الخمسين ومستغربين أن تكون بهيئة لا توحي بأنها من "الطبقة العاملة".. ومعهم حق أصحاب الحق المطلق وسجناء الرأي الأوحد لأنهم لا يعرفون أن هذه السيدة التي تحب وزوجها تونس أيما حب وأتياها في أكثر من مناسبة منذ الثورة هي من أصل لبناني ومسيحية ومتزوجة من شيوعي.. كما لا يعرف العديد ممن نادى سرا أوأفتى جهرا بضرورة عقاب الجثة الكافرة لشكري بلعيد ونفيها بعيدا عن مقبرة المسلمين، وممن حاول الإعتداء على بلعيد حيا في أكثر من مناسبة، وليس آخرها يوم 23 جانفي 2012 عند خروجه من محاكمة قناة نسمة، كم إسلاميا من مقموعي الرأي في عهد بن علي تكفل هذا المحامي بالدفاع عنهم وكم من ضحايا التعذيب صدع جهوريا بصوتهم وحقهم  في وقت لم يكن لهم فيه من لسان دفاع إسلامي يصدع بالحق ولا يخشى فيه لومة لائم.. وكم من معوز من هؤلاء نال حق المرافعة عنه دونما أن يكلف نفسه لا المليم الذي ليس بجيبه ولا حرج الحديث عن ضيق اليد، كلهم دافع عنهم  شكري بلعيد بشراسة، من موقع إيمانه الثابت كيساري وحقوقي استهدف هو أيضا للملاحقة والسجن والإضطهاد في عهدي بورقيبة وبن علي، وفي وقت كان بإمكانه أن يكسب من المحاماة ما يدر للكثير ممن يمتهنها كتجارة مرافعات لا غير، دخلا بعشرات الملايين.. عاش بلعيد حتى اغتيل، وهو وزوجته يمتهنان المحاماة، ولم يملك لا بيتا ولا مترا في عقار ولا مفتاح سيارة.. ولا حتى رخصة سياقة.. وحين فتحت السجون أبوابها، كان في مقدمة من يصول ويجول في الساحات، وبمكبرات الصوت، ناعتا بلعيد بأنه لا "يصلح لشيء آخر غير فوهة المدفع" موَكّــليه بالأمس القريب من السلفيين والإسلاميين..  

عودة للصنم في الختام، أخي فاخر، الشموع وباقات الورد التي غطت المكان الذي سقط فيه بلعيد شهيدا، والصنم الذي تكسر، إن كانت بدت للبعض بدعا وطقوسا وثنية، نبعت في الواقع من قلوب الملايين ودينهم السمح، ملايين التونسيين الذين لا يعرف جلهم ما ورد في المناظرة الآنفة الذكر، بين ميتران وديستان، ولكنهم رفضوا، وبسماحة دينهم الحق، عقيدة الإقصاء والتكفير.. ودونما نية منهم في تأليه ضحية الجبن والغدر ولا تصنيمه، أرادوا ان يقولوا: الشهيد شكري بلعيد  مات تحت فوهة المسدس، غير أننا لن نقبره وكأنه لم يكن صالحا لشيئ آخر عدى فوهة المدفع..

عودة للصنم مرة أخيرة، أخي فاخر، وأرجو ألا يفسد الصنم للإخاء سبيلا، ثمة أصنام أخطر مما كسرناه بتطهير مكي على موقع اغتيال الشهيد..أصنام وثنية بحق تستوجب شجاعة مني ومنك لكسرها.. وهي منتصبة في عقولنا يمينا وشمالا على حد السواء.. أصنام قاتلة للدين والوطن والأحياء، عايَــنّا عن كثب آثارها في الشقيقة الجزائر بالأمس ونعيشها اليوم في الشقيقة سوريا ونخشى ان تأتي غدا أيضا على أخضر بلادنا ويابسه لو تقاعسنا في تطهيرها "مكيا" من عقولنا.. أصنامنا القاتلة، وهي ناتــئة في رؤوسنا ولا نراها، أولى بغيرها من التطهير المكي.. ولا أريد ان أنهي بنبرة توحي بالتشاؤم لكني استحضر هنا قولة لإنشتاين أسوقها لما يمكن أن يستلهمه كل التونسيين منها : حذار من الأحكام المسبقة التي تكبل عقولنا وتنبع من أصنام وليناها على ضمائرنا فاستباحت منا بعد حرية العقل ونوره دمنا والوطن: 

Il est plus facile de désintégrer un atome qu'un préjugé.
إن تفكيك ذرة هو أسهل من تفكيك فكرة موروثة...
مع تحياتي ومودتي، أخي فاخر.



احمد العامري

25. 02. 13
                                

Quand les médias crachent sur Aaron Bushnell (Par Olivier Mukuna)

Visant à médiatiser son refus d'être « complice d'un génocide » et son soutien à une « Palestine libre », l'immolation d'Aar...