منذ نشرها سنة 1820 وليومنا هذا، تعتبر قصيدة "البحيرة" للشاعر الفرنسي ألفونس لامارتين جوهرة الشعر الرومانسي. وقد استوحى الشاعر هذه الرائعة الأدبية من قصته الغرامية مع امرأة متزوجة تسمى جولي شارل، تعرف عليها خلال فترة نقاهة أمضاها في لوبورجي سنة 1816. أما ظروف هذا التعارف والحب الذي تولد عنه، فهي تتلخص في أن جولي شارل كانت مصابة بمرض السل وتعاني من الاكتئاب، وكانت تتنزه على ضفاف بحيرة لوبورجي عندما التقاها لامارتين. وأحبها وبادلته الحب، واختليا ببعضهما في أكثر من مناسبة، وبالخصوص في مغارة أصبحت تسمى فيما بعد بــ"مغارة لامرتين". ولما انتهت فترة النقاهة هذه، تواعدا غلى اللقاء في نفس المكان في السنة القادمة. لكن الموت لم يمهل جولي إذ اختطفها قبل أن تتمكن من تجديد اللقاء بالشاعر، وهو ما جعل من البحيرة منبع ذكرى وإلهام للشاعر، يأتيها ليقف على الأطلال ويبكي حبه المفقود. وفيما يلي ترجمة نقولا يوسف فياض (1870-1930)، التي لا تقل روعة، في اعتقادي، عن النص الأصلي.
البحيرة
أهـكـذا أبداً تمضي أمانـيـنـا ** نطوي الحياةَ وليلُ الموت يطوينا
تجري بنا سُفُنُ الأعمارِ ماخرةً ** بحرَ الوجودِ ولا نُلقي مراسينا؟
بحيرةَ الحبِّ حيّاكِ الحيا فَلَكَمْ ** كانت مياهُكِ بالنجوى تُحيّينا
قد كنتُ أرجو ختامَ العامِ يجمعنا ** واليومَ للدهر لا يُرجى تلاقينا
فجئتُ أجلس وحدي حيثما أخذتْ ** عني الحبيبةُ آيَ الحبّ تَلْقينا
هذا أنينُكِ ما بدّلتِ نغمتَهُ ** وطال ما حُمّلتْ فيه أغانينا
وفوق شاطئكِ الأمواجُ ما برحتْ ** تُلاطم الصخرَ حيناً والهوا حينا
وتحت أقدامها يا طالَ ما طرحتْ ** من رغوة الماءِ كفُّ الريحِ تأمينا
هل تذكرين مساءً فوق مائكِ إذ ** يجري ونحن سكوتٌ في تصابينا؟
والبرُّ والبحر والأفلاكُ مصغيةٌ ** مَعْنا فلا شيءَ يُلهيها ويُلهينا
إلا المجاذيفُ بالأمواجِ ضاربةً ** يخالُ إيقاعَها العشّاقُ تلحينا
إذا برنّة أنغامٍ سُحرتُ بها ** فخِلتُ أن الملا الأعلى يُناجينا
والموجُ أصغى لمن أهوى، وقد تركتْ ** بهذه الكلماتِ الموجَ مفتونا
يا دهرُ قفْ، فحرامٌ أن تطيرَ بنا ** من قبل أن نتملّى من أمانينا
ويا زمانَ الصِّبا دعنا على مَهَلٍ ** نلتذُّ بالحبِّ في أحلى ليالينا
أجبْ دعاءَ بني البؤسى بأرضكَ ذي ** وطرْ بهم فهمُ في العيش يشقونا
خُذِ الشقيَّ وخذْ مَعْه تعاستَهُ ** وخلّنا فهناءُ الحبِّ يكفينا
هيهات هيهات أن الدهرَ يسمع لي ** فالوقتُ يفلت والساعاتُ تُفنينا
أقولُ للّيل قفْ، والفجرُ يطردُهُ ** مُمزِّقاً منه سِتراً بات يُخفينا
فلنغنمِ الحبَّ ما دام الزمانُ بنا ** يجري ولا وقفةٌ فيه تُعزّينا
ما دام في البؤس والنُعمى تصرّفُهُ ** إلى الزوال، فيَبْلى وهو يُبلينا
تاللهِ يا ظلمةَ الماضي، ويا عَدَماً ** في ليله الأبديّ الدهرُ يرمينا
ما زال لجُّكِ للأيام مبتلِعاً ** فما الذي أنتِ بالأيام تُجرينا؟
ناشدتُكِ اللهَ قُولي وارحمي وَلَهي ** أتُرجعين لنا أحلامَ ماضينا؟
فيا بحيرةَ أيامِ الصِّبا أبداً ** تبقين بالدهر والأيامُ تُزرينا
تذكارُ عهدِ التصابي فاحفظيه لنا ** ففيكِ عهدُ التصابي بات مدفونا
على مياهكِ في صفوٍ وفي كدرٍ ** فليبقَ ذا الذكرُ تُحييه فيُحيينا
وفي صخوركِ جرداءً معلّقةً ** عليكِ، والشوحِ مُسْوَدِّ الأفانينا
وفي ضفافكِ والأصواتُ راجعةٌ ** منها إليها كترجيع الشجيّينا
وليبقَ في القمر الساري، مُبيِّضةً ** أنوارُه سطحَكِ الزاهي بها حينا
وكلَّما صافحتْكِ الريحُ في سَحَرٍ ** أو حرّكتْ قَصَباتٌ عِطفَها لينا
أو فاح في الروض عطرٌ فليكنْ لكِ ذا ** صوتاً يُردّد عنا ما جرى فينا
أحــبــَّهــا وأحبـّـَــته، وما سلـمــا ** من الــردى، رحــمَ اللهُ المحبّينا
نقولا يوسف فياض
أ.ع. 16. 02. 2022