عندما شاع في أواخر جوان 2006 نبأ القبض على مجموعة "إرهابية" في العراق تضم بين عناصرها شابا تونسيا يلقب بأبوقدامة، لم أكترث كثيرا للخبر. وأصدقك القول أن حلقات "فرق الموت" وصدى أخبار التفجيرات التي تنقلها لنا وسائل الإعلام وصور الموتى فرادى وبالجملة التي كانت تطاردنا على كل شاشة أو صفحة تذكر بغداد وغيرها من مدن العراق ما كانت لتترك لنا مجالا حتى نقف عند خبر القبض على أبو قدامة أو نهتم بمصيره.
قد تعتب علي إن قلت : كنت أحس بنفسي أقرب من الأشلاء البشرية الممزقة في ساحات العراق واهتمامي بحقن الدماء البريئة في هذا الجزء من الوطن أو غيره من أصقاع الأرض كان أكبر من أن يفسح لي مجالا للتفكير في أبو قدامة التونسي ومصيره. فهذا الأخير، بشهادة المرئيات ودم الأبرياء ودلالات الإسم الحركي "إرهابي"، وأقل تعاطف معه بأي شكل يعد تزكية موضوعية للإرهاب .
نعم، عزيزي يسري، تلك كانت الصورة التي ارتسمت في مخيلتي عنك، وكنت أجهل الكثير بخصوص الحيثيات ولا أعرف من الحقائق أو ما يسمى بهذا الإسم إلا ما وصلني عن طريق الويب وبعض الصحف التونسية التي نقلت الخبرعن مستشار الأمن العراقي، في شكله الجاهز للتسويق والإستهلاك، دون أن تكلف نفسها عناء التمحيص والتحقيق حتى نفهم الظروف الحقيقية لإيقافك والملابسات التي حفت بتواجدك في العراق وطبيعة العمليات القتالية التي كنت تنفذها . وأذكر من جملة ما قيل عنك حينئذ أنك تنتمي للقاعدة و لقب أبو قدامة التونسي يضعك في موقع قيادي والأهم من هذا كله أنك متهم بتنفيذ تفجير المرقدين الشيعيين بسمراء والإستيلاء على ما فيهما من كنوز أثرية نفيسة وكذلك اغتيال الإعلامية والأديبة أطوار بهجت .. تهم كتلك دفعتني للقول: ليسري رب يحميه إن كان بن لادن وأتباعه من جند الله.
وبالأكيد أن الرواية الرسمية، في ظل التعتيم الإعلامي الذي كانت تونس طرفا فيه تحت مسمى مكافحة الإرهاب أساءت لصورتك بدرجة جعلت من الصعب على الكثير، في تونس أو اينما وصل الخبر، أن يتتفاعلوا موضوعيا مع قضيتك، ولو أن واجب الإنصاف الحقيقي لك ولكل متهم كان يفترض أن نقول عنك: أنت بريء حتى تثبت إدانتك.
في جملة التحريات التي تلت هذا الخبر، علمت أنك دخلت العراق سنة 2003 متسللا عن طريق الحدود السورية
وكنت واحدا من عشرات التونسيين الذين انضموا لصفوف المقاومة العراقية وأبلوا البلاء الحسن في محاربة المحتل الأمريكي. لم أوفق في التثبت من انتمائك للقاعدة ولكن الأكيد أن دوافعك الإسلامية والعروبية كانتا وراء إيمانك بضرورة الجهاد لنصرة الإخوة في العراق. خضت معارك شرسة مع المحتل الأمريكي وقتلت من المغتصبين الكثير والكثير، وعلى مدى ثلاث سنوات وفي ساحات عدة زرعت ورفاقك الرعب في صفوف المحتل والقادم على دبابة المحتل .. قبل أن تحل صائفة 2006 لتقع في قبضة الأعداء، عند نقطة تفتيش في الضلوعية، وبعد معركة حامية أصبت فيها أنت بجروح بالغة في حين استشهد كل رفاقك، وكانوا خمسة عشر من جنسيات عربية مختلفة . ولولا الحظ الذي أسعفك أو أسعفنا نحن (لأنك كنت ترغب في شرف الشهادة) لما كتب لك أن تبق حيا وأنت المصاب بسبع رصاصات في أماكن عدة من جسدك.
قبض عليك وانت في حالة غيبوبة لتصارع الموت أياما عدة، وأودعت سجنا تحت إشراف المحتل وكتب لك أن تتعافى ليتم تعذيبك لاحقا، وربما عذبت وانت ماتزال جريحا.. وألصقوا بك التهم التي أشار إليها موفق الربيعي في ندوته الصحفية المتلفزة.
وفي خريف 2006 حوكمت في محكمة الجنايات المركزية ببغداد وصدر ضدك بتاريخ 10 أكتوبر2006 الحكم بالإعدام .
حتى هذا التاريخ مازال الإعتقاد سائدا لدى قسط كبير من الصحافة الوطنية، أو تلك التي اهتمت بك أملا في تنشيط مبيعاتها، أنك مورط في حادثة تفجير المرقدين الشيعيين وفي مقتل الصحفية أطوار بهجت، لكن عائلتك التي ربتك على قيم المحبة والإسلام السمح وهي أدرى بحقيقتك من أي كان، كانت على يقين من براءتك في كل ما يتصل بجرائم الإرهاب وواثقة بأن عملك الجهادي موجه حصريا ضد المحتل الأمريكي(1) وبالتالي فما قمت به مشروع لا غبار عليه، أيا كان اللواء الذي تنطوي تحته.
ثم جاءت التأكيدات على مراحل من العراق وأولها من محافظ سمراء بالذات لتزيد في قناعة عائلتك وتمس الرأي العام ولو في جزء يسير منه لغياب الإعلام المواكب للشأن العراقي وشأنك أنت بالخصوص..فقد صرح المحافظ المذكور أن قوات عراقية بالزي الرسمي هي التي نفذت تفجيرات المرقدين، وشهادة بهذه القيمة ومن مصدر شيعي عال لا يمكن ان يستهان بها. كما أكدت شهادات أخرى أن قوات عراقية خاصة هي التي اختطفت أطوار بهجت بعد آخر تصريح لها على قناة العربية ووجدت بعد ذلك مقتولة وقد تم القبض على قاتلها بتاريخ 4 أوت 2009 وهو المدعو ياسر علي أحد منتسبي مغاوير الداخلية في سامراء.
في نهاية جانفي 2007، وصل أهلك ولأول مرة صوتك عن طريق الهاتف، وكانت مناسبة لتأكد لذويك بالصوت الواضح براءتك من دم أي عراقي نسب إليك. وبقدر ما أعادت مكالمتك بصيص الأمل عند الأهل والأقارب في إمكانية مراجعة القضايا الملصقة بك زادت في حدة الخوف من قرب تنفيذ الحكم بالإعدام سيما وأن هذه المكالمة جاءت بعد أسابيع قليلة من إعدام صدام حسين يوم عيد الإضحى الموافق لــ30ديسمبر 2006 .
في الأسبوع الأول لشهر جانفي 2008 ، بثت العربية تسجيلا للمسمى محمود الدهوي الذي اعتقل قبل أربعة أيام تقريبا يعترف فيه بأنه هو الذي قام بتفجير المرقدين وكان اعترافه مدعما بصور المسروقات التي عثرت عليها قوات الأمن بحوزته. وكان من المفروض أن تعاد محاكمتك على ضوء هذه المعطيات الجديدة وتعامل على أساس اتفاقية جنيف الخاصة بأسرى الحرب. ولئن تمت المحاكمة الثانية بالفعل في شهر جانفي المنصرم وفي الفترة التي تلت بقليل سقوط بن علي في تونس، إلا أن هذه المحاكمة، خلافا لكل الأعراف وقوانين القضاء تمت بصفة غيابية وبدون حضور أي محام وتم تثبيت الحكم الأول، أي الإعدام، وأبلغوك الخبر بمراسلة من وزارة العدل العراقية .
عزيزي يسري،
أن تعاد محاكمتك وتونس تعيش على وقع الثورة ويثبت القضاء العراقي حكم الإعدام الأول رغم المستجدات وفي الظروف التي سبق ذكرها مفاده أن رسالة ما تود السلطات العراقية توجيهها لنا. وليس محض صدفة ان يشمل الإعدام رفاقا آخرين لك من جنسيات عربية عدة ثلاثة منها تعيش بلدانها هي الأخرى على وقع الثورة. ومهما يكن نحن ثرنا في تونس ضد الجبروت والظلم ولا نستحق أن نعاقب على إسقاط طاغية بقطع رأس لأحد ابناء تونس البررة لأن الثورة التي أطاحت ببن علي أسقطت في نفس الوقت أسطورة القاعدة وشهد العالم كله لنا بأن البوعزيزي كان أسبق من الأمريكيين في قتل بن لادن.
وبالتالي، نحن نعتبرك، يسري الطريقي، أسير حرب، لا إرهابيا، ضحيت بأنفس سنوات العمر، زهرة شبابك، وبرخاء العيش وهناء عائلتك وذويك لتخدم قضية عادلة وتناصر وفق ما أملاه عليك دينك وضميرك إخوتك في العراق ضد من اغتصب أرضهم ودنس عرضهم.
وفوق هذا كله، انت ضحية مؤامرة قضائية إذا صح ما تردد على موقع الكرامة (2) بخصوص التهديدات التي وجهها لك قاضي التعقيب في أكتوبر 2010 حيث حذرك بصفة صريحة من مغبة التراجع في الإعترافات التي سجلت ضدك تحت التعذيب.
ماذا أقول لك في الختام، عزيزي يسري، سوى إيماني الراسخ وأنا أتصفح صورا لك جادت بها علي صفحات أحبتك وأهلك الذين يعملون قدر وسعهم على إنارة الراي العام ونصرة الحقيقية، بأنك واحد من أبنائي في هذه الساعة العصيبة بل أنت أقربهم لقلبي بفعل المحنة التي تعيشها والمكروه الذي نخشاه ونتمنى ألا يحصل. ولا أملك غير رفع الصوت مناديا بل صارخا في ضمير كل فرد من الحكومة المؤقتة(3) ورئيس الجمهورية المؤقت وكل طرف عربي وإسلامي وأممي بوسعه التدخل أن يتحركوا لإيقاف التنفيذ وإبطال الحكم بالإعدام وإعادة الأمل لوالديك وإخوتك ولنا جميعا.
ليس ثمة معركة أشرف لضميرنا بصفتنا أحياء طلقاء ولا أنبل من وقوفنا معا ضد حبل المشنقة لنرفع رأس الحياة.
أشد على يديك بكل قوة، يسري، وأتمنى من أعماق قلبي أن نراك قريبا حيا وحرا في تونس
أ.عامري
2011.07.15
1- شهادة والد يسري على اليونيب
2- موقع الكرامة
3-تلقى السيد فاخر الطريقي تأكيدات من وزارة الخارجية التونسية تفيد بأنها تعمل على نقل يسري لتونس ونتمنى أن يكلل مسعى الوزارة بالتوفيق