Affichage des articles dont le libellé est Sami Fehri. Afficher tous les articles
Affichage des articles dont le libellé est Sami Fehri. Afficher tous les articles

mercredi 15 janvier 2020

ليس القرطاجيون هم من أصبحوا رومانا


أيهــجـرنـي قومي عفا الله عنهم / إلى لـغــة لــم تـتـصل بـــرواة ؟
  سرت لوثة الإفرنج فيها كما سرى/ لُعَابُ الأفاعي في مسيل فرات
  فجاءت كثوبٍ ضم سبعين رقعة / مُشَكَّلَةَ الألـوان مـخـتــلـفــــــات

(حافظ ابراهيم)


يبدو أن بعض وسائل الإعلام التونسية، وبالخصوص من القطاع الخاص، تود أن توحي لنا بأن تغريب البلاد، أو المشروع الذي أخفق في تحقيقه الإستعمار الفرنسي، وقد دام وجوده العسكري لما يناهزالثمانين سنة، كما أخفق فيه الوجود الروماني قديما، وقد دام لأكثر من ستة قرون، يكاد يصبح في سنوات وجيزة، وعلى أيد  محلية من أجيال العصر، إنجازا قائم الذات. فشواهد التفرنس التي تطفو بشكل خاص على هذه القنوات، تعد نموذجا في مجال الإغتراب، ومثالا عاليا، لا حياء فيه ولا تستر، لاكتساح ثقافي ممنهج، هو السمة الأولى لهذه المحطات، إذاعية كانت أو تلفزية، والعنوان الأبرز في خطها الإعلامي.

 أسماء برامج، خطا وكلمة، بالفرنسية(1)، والشيء نفسه ينطبق على فقرات هذه البرامج ، "توليديات" برامج، أو ما اصطلح على تسميته بالجنيريك، على نفس النمط، ومضات إشهارية، إما تَفَرْنَسَت بالكامل، وإما تَهَجَّنت بأكثر من الوافي، ألسنة منشطين ومنشطات  وضيوف كرام لهم، شابها من التَّهْجين ما يطفح به الكيل، حتى أنها، لجودها وغزارة ثقافتها، تأبى التكرم علينا بجملة واحدة في خمس كلمات، دون أن تكون أربع منها باللسان الفرنسي القح.




يحدث هذا في بلاد قال أحد أبنائها قديما، وهو يخاطب الرومان وأهل البلاد على حد السواء: "ليس القرطاجيون هم من أصبحوا رومانا بقدر ما أصبح الرومان قرطاجيين". 

هل يجوز للتونسيين، حتى وإن عد بينهم على الأصابع من يذكر تَرْتُلْيَان، وهو صاحب
القولة هذه، أن يتنكروا لهذا الفخر الوطني؟ أقول كتونسي، وليس بصوت خافت: لا. والأولى بمن تخلى عن لغته وبدا وكأنه يناغي ديك الغال، أن يراجع أقلاما لـ"أحفاد الغال" نفسهم في مسألة اللغة الوطنية بالتحديد(2)، ثم التاريخ، بدءا بالمراجع الفرنسية التي لا تحصى ولا تعد(3)، عن انحناءات التقديرالتي سجلت لتَرْتُلْيَان وغيره، وما كانوا بالقلائل، ممن ذادوا عن فخر الإنتماء لهذه الأرض. وليس أقل هذه الإنحناءات تعبيرا، في رأيي، كتلك التي خطها  الكاتب الفرنسي "بروسبار أنفنتان"، منذ ما يناهز عن القرنين، حين نقل لقرائه النص الكامل لـ"رسالة المنديل"، واعتذر لطولها بالقول: "معذرة لطول الإقتباس، فترتليان يبدو لي عظيما من خلاله !"


هل يطمح أصحاب هذه المحطات، في تونس، بعد خضوع جزء كبير من إعلامنا الوطني للرأسمال المحلي والأممي، وانخراطه فيما يسمى بــ"تصنيع الموافقة لتجسيد الكابوس الذي تَلَمَّحَه، في مصر الإخشيدية، حافظ ابراهيم ؟ لا نشك أن من يقف وراء سياسة الفرنسة بهذه القنوات (4)، هم جزء من خيال ظل تدار خيوطه خارج البلاد، أو تحت خيمة منظمة تعمل بالوكالة لصالح من يحرك هذا الخيال، أو، لم لا، مباشرة تحت قبة دبلوماسية في تونس. لكن تونس الإباء، وشعبها الذي يسميها "بية"، لا يسعهما إلا الوقوف في وجه من يريدها حاملة ذيل.. ذيل فستان يختال وراء البحر بزهو الغال، وغاب عن لابسة الفستان أن إباء البلاد، كما ضمير الشعب، ليس قدرهما أن يكونا أقل فخرا من "سردوك" الغال..

 لن تصبح "غُزَّة فولتير"(5) على تراب البية وفوق تربة تَرْتُلْيَان، للضَّادِ غَازِيَةً.



أتساءل عن حق، وأتمنى أن تصبح المساءلة مطلبا وطنيا: هل تتلقى هذا القنوات حب قوتها من جهة ما، خارجية أو داخلية، تحفزها على هذا "الإنتاج المتنامي" وتبرر محصولا قياسيا لا يقارن بصابة زيتون أو دقلة أو قمح ؟ 

أتساءل عن حق، وأتمنى أن تصبح المساءلة مطلبا وطنيا: هل في سكوت الدولة عما هو مكشوف ما يبرر "مستورا" لا يجوز النفاذ إليه ؟ هل ثمة اتفاقيات ثنائية، سرية، بين تونس وطرف داعم للفرنكفونية تُشرِّعُ قبولنا بهذا الإكتساح اللغوي، مقابل بقشيش أو خدمات تسدى للدولة ؟

 كيف يعقل أن نعاين هذا الكم الهائل والمتزايد كل يوم من سمات الفرنسة، والأنجلزة أحيانا، في المشهد الإعلامي المسمى بالوطني، ولا يرتفع في البلاد صوت رسمي ليقول: صبرنا كثيرا، كفانا عارا ؟ أين قيس سعيد الذي صوت جزء كبير من التونسيين للسانه العربي القح أكثر ممن صوت لشح المغزى في شعاره: "الشعب يريد" ؟ "أريد رَدَّكم  بهذا الصدد، يا أستاذ، يا فخامة الرئيس! بصفتكم ضامنا للدستور، هلا تنتبهون لانتهاك مس المادة الأولى منه، والمادة 39، حتى أفسدهما معناهما"؟ أين مجلس الأمن القومي، والهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري، والهيئة الوطنية لمكافحة الفساد(6) ومجلس الشعب ؟ هل هذه المسألة ليست من مشمولات تلك الهياكل؟ هل تعتبرالظاهرة الألسنية هذه، خلافا لما أرى، طبيعية، ولا تدعو للتنبيه، في بلاد ينص دستورها بمادته الأولى، وفي جملة ما ينص، على أن تونس دولة مستقلة ذات سيادة، لغتها العربية ؟ هل بهذا التواطؤ (لأن في الصمت رضى وتواطؤ) تستطيع الدولة إقناعنا بأنها "تعمل على تأصيل الناشئة في هويتها العربية الإسلامية وانتمائها الوطني وعلى ترسيخ اللغة العربية ودعمها وتعميم استخدامها"، وفق المادة 39 من الدستور؟

ما أحوجنا، في انتظار أن يعود الوعي لمن فقده، لنص قانوني أقله كذاك الساري بفرنسا والمعروف بــ"قانون توبون"!(7) ولكن قبل كل قانون وأقدس من كل نص، ما أحوجنا بالخصوص لفخر كذاك الذي عبر عنه ترتليان، وردد صداه الكون والتاريخ.

 تَرْتُلْيَان
" أيها القرطاجيون، لقد كنتم سادة إفْريقية منذ غياهب الدهور، والإمبراطورية التي كنتم ماسكين بزمامها- وقد كان لها ذات الإمتداد لهذا الجزء الشاسع والرائع من الأرض- كانت قائمة منذ قرون وقرون، حتى بِالْكادِ نستطيع تَلَمّحَ بداياتها. اعلموا أن لكم إسما وبأسا لهما نفس الباع والرسوخ، حتى أنه لا  يكاد يسمع للإسم صدى دون أن  يثير لِلتَّوِّ هيبة البأس الذي اقترن به. وعلى الأمم الأخرى أن تُقِرَّ لكم صراحة بهذا الصيت وأن تعترف أقواها وأعتاها بأنه إذا حُقَّ لشعب أن يفخر بمجده على قدر رسوخه في منابع التاريخ فليس ثمة شعب بوسعه أن ينازع  جدارة هذا الحق للقرطاجيين. واعلموا أن نصيب الحاضر في اسعادكم ليس أقل من نصيب الماضي في عظمتكم، ولئن بدا لفترة أن قرطاج بعد ما لحقها من دمار وخراب لم تعد غير تجسيد للوحدة البائسة والموحشة، فإن المنتصر الذي حولها لرماد قد أعاد بناءها في حقيقة الأمر، والرومان الذين جعلوا من ديارها قفرا خلاء قد أعادوا إعمارها، ثم  هم -فضلا عن ذلك- أبقوا للخلود المخلد على اسم قرطاج. أقول لكم وللعبرة: ليس القرطاجيون هم من أصبحوا رومانا بقدر ما أصبح الرومان قرطاجيين." ( ترتليان (160- 220) - رسالة المنديل)
 


أحمد العامري
02 . 01 . 2020 

(1) ربما الأدهى والأمر يكون في استيراد كلمات فرنسية من أصول عربية.
لو أخذنا على سبيل المثال "Bas les masques"، وهو عنوان لبرنامج  فرنسي قديم يذكره جيلي من التونسيين، كان يعرض على قناة " فرانس 2" في التسعينات، ولا ندري إن اشترت القناة التونسية التي تعرض اليوم برنامجا بنفس الإسم حقوق البث أم لا، ولكن ما يهم أكثر أن العنوان بأكمله مشتق من أصول عربية. "masque" التي دخلت للفرنسية سنة 1514 بمعنى "وجه اصطناعي للتنكر" هي، وفق أكثر من مرجع لغوي غربي (1، 2، 3، 4، 5) مشتقة من كلمة "مسخرة" عن طريق الإيطالية "مسكرة maschera". أما "bas" التي دخلت للفرتسية سنة 1119، ويزعم أنها مشتقة من اللاتينية "bassus"، فهي في رأيي من "َبَعَصَ" (أي أصبح نحيلا) أو "بعصوص" (الضئيل الجسم) وليس من اللاتينية "bassus"، لأن هذه الأخيرة تعني "بدين، ضخم"، وهو ما لا يتفق مع المعنى الفرنسي الذي يفيد "قليل الإرتفاع، قليل العلو"، ثم إنها، فضلا عن ذلك وبشهادة  لويس اميلي سيديو، هي اسم علم في الأصل. وأعتقد أن اميلي سيديو حين يدعم أصلا عربيا وينسب للعربية "bassa" و " abassa" دون استناد لأصل بالخط العربي الصريح، هو لا يدعم "بعص" الذي أتبناه أو "أبعص" (الغير موجود)، ولكن "باح" (بمعنى صرع وقتل) و"أباح" من خلال الطرح الذي يسنده اللغوي الإسباني فرانسيسكو مارتينيز مارينا (Francisco Martinez Marina) واللغوي الإيطالي إنريكو ناروتشي (Enrico Narducci).  ماذا بقي غير عربي في " Bas les masques" ؟ لا شيء لأن "Les, le, la" تم استنساخها من أداة التعريف العربية "الــ".
لو أخذنا "Rendez-vous" المشتقة من فعل "rendre" أي "رَدَّ "(وهذا الأخير دخل للفرنسية في المنتصف الثاني للقرن العاشر) سنجد أن أقدم شكل للفعل في اللغات الرومنسية هو "red"، وقد ورد في نص يعود للقرن الثامن وربما السابع، في جملة تقول: "Jesús li bons ben red per mal"، وتعني "المسيح الطيب رد الخير مقابل الشر". ولا أخال الفعل الفرنسي مشتقا من الجذر اللاتيني وهو "reddere/ reddo" (رغم التطابق في المعنى) وإنما جاء من الجذر العربي "رَدَّ / يَرُدُّ" من خلال البروفنسالية التي نجد فيها "rendre, reddre, redre, retre".(انظرEtymologie على هذا الرابط).
لو أخذنا  كلمات مثل "Chiffre" و"ِCoup de coeur" و"Coup de gueule"، وهي عناوين فقرات في أحد البرامج اليومية، لوجدنا  في العناوين الثلاث واحدا مشتقا من العربية، والثاني في جزء منه فارسي وفي جزء آخر يرجح أن يكون من العربية أيضا، والثالث، فيما يخص الجزء الثاني، يعتبر عربيا-فارسيا، والأرجح أنه دخل الفرنسية عن طريق العرب. الكلمة الأولى،"chiffre"، معروفة، هي من "صفر"، أما عبارة coup de coeur ، فهي فيما يخص coeur مشتقة من اللاتينية "cordis"، ويجدر التذكير أنها تعني، فضلا عن القلب، "أحشاء، أمعاء".. ولو قارنا العربية "كَرْشٌ"(انطقها بالتنوين) بالإسبانية والغاليسية "corazón "( كُرَثُنْ)، وفي كليهما نجد أنه فضلا عن المعنى الأول لـ "قلب"، الكلمة تعني أيضا "كرش، أحشاء"، لتبين لنا مدى التطابق بين هاتين اللغتين واللاتينية من ناحية والعربية من ناحية أخرى. وبالتالي فإمكانية اشتقاق اللاتينية من العربية واردة جدا. وفيما يخص كلمة coup التي نجدها في عبارتي"ِCoup de coeur" و"Coup de gueule" فهي من اصل فارسي مثلما بين ذلك أنطوان بولان بيهان.   

(2) هذه عينات مترجمة، والنصوص الأصلية على الروابط، للبعض مما خطه كتاب فرنسيون، في هذا الصدد: "إن الأداة الأولى لنبوغ شعب، هي لغته. " (ستندال، كاتب (1783-1842)) - "أبتهج لرؤية شعب يدافع عن لغته ." (مايكل إدواردز (شاعر فرنسي ، ناقد أدبي ، مترجم ، أستاذ وعضو في الأكاديمية الفرنسية منذ 2013)) -  "الويل لشعب فقد لغته أو طغى عليها التفسخ حتى فقدت معناها الأصلي.[...] شعب كهذا يصبح في ذمة الله.. "(إتيان غاوسن ، (1813-1896)، خطاب، وقائع الأكاديمية الملكية للعلوم والآداب والفنون الجميلة، مجلد 25، باريس، 1863، ص. 649) - "الشعب الذي يفقد لغته يتخلى عن جنسيته." (فيكتور سان دي جونيس، تاريخ سافوا، ج. 3، باريس، 1869، ص. 227)- "تذكروا [...] أن الشعب الذي يفقد لغته يفقد روحه كشعب، فبخنوعه هذا لأجناس أخرى قد روضته، يكون قد ذاب  فيها وتلاشى وفي النهاية مآله الغرق."  (أرسين فيرمينوز، شذرات غير منشورة من الألسنة الأكستانية، لو كنفيز، 1996، ص 191)

 (3) لمن تعوزه المراجع، تاريخ شمال افريقيا القديم، بقلم ستيفان جزيل في 8 مجلدات بالعربية (ج.1، ج.2، ج.3، ج.4، ج.5، ج.6، ج.7، ج.8) والفرنسية ( vol. 1, vol. 2, vol. 3, vol. 4, vol. 5, vol. 6, vol. 7, vol. 8)، والتاريخ الأدبي لإفريقيا المسيحية منذ الأصول حتى الغزو العربي، بقلم بول مونسو، في 7 مجلدات بالفرنسية (vol. 1, vol. 2, vol. 3, vol. 4, vol. 5, vol. 6, vol. 7)، تضاف إليها دراسة مخصصة لأفولي.

(4) حتى لا أوحي للقارئ بأني أرشق بالحجارة كل الناس في هذه القنوات على حد السواء، لا بد من إعطاء كل ذي حق حقه والإشارة للتقدير الكبير الذي أكنه للكثير من الإعلاميين العاملين في هذه القنوات ولبرامجهم القيمة (وهي بالمناسبة خارج الخانة المعنية). أرباب هذه القنوات، من مالكين ومسيرين ومنتجين لمادة التهجين والفرنسة هم المعنيون تحديدا بفحوى هذه الورقة.
(5)- فولتير، أو بطريرك الأدب الفرنسي كما يحلو لبعض النقاد تسميته، أوصي مواطنيه من المثقفين خيرا بـــ"الْغُزَّة الفخورة التي يتوجب التكرم عليها بحسنات من حين لآخر". وبقيت الوصية خالدة سيما وأنها موثقة  في أول خطاب للكاتب بالمجمع اللغوي الذي أصبح عضوا فيه، بتاريخ 2 ماي 1746. ورغم امتعاض العديد من النقاد الفرنسيين من هذه الوصية، فإن هالة التقدير التي يحظى بها فولتير كأبرز فلاسفة الأنوار لم تساعد على حجب هذا الوصف المشين للفرنسية كلغة، حتى أن بعض الكتاب لم يتحرجوا بعد وفاة فولتير من استبدال "فخورة fière" بــ"نبيلة noble"، لغاية بلاغية صرفة مفادها أن النبل يطغى على "الغزوزية"، لكن، فخورة كانت أو نبيلة، "الْغُزَّة" (la gueuse) تبقى دوما في حاجة لصدقات المحسنين. و"الْغُزَّة" (la gueuse)، لغويا، بخلاف الطرح الذي يسند هذه الكلمة للهولندية، مشتقة في رأيي من "الْغُزِّ"، كلمة يعرفها ابن منظور بـ"جنس من الأتراك"، ويكره سماعها أتراك اليوم ممن ينسبون أنفسهم للسلالة العثمانية، لأن الكلمة، كما درجت على لسان العرب، لها دلالة "الصعلكة" وتوحي بالكثير من التحقير. ومن نفس الجذرفي اعتقادي أيضا (وليس من "غزا"/"يغزو" كما يدعي البعض) اشتق اسم "الغوازي" راقصات مصر اللاتي يمتهن أيضا "فن" الدعارة، ودخلت كلمة "غوازي" للفرنسية منذ حملة نابليون على بلاد النيل، وبالتالي فــ"غُزَّة" (gueuse) لا تعدو أن تكون "تهجية" قديمة لـ"غوازي"، دخلت لهذه اللغة  في شكل المذكر (gueux) في منتصف القرن الخامس عشر، وشابها من التعتيم اللغوي ما شاب الآلاف من الكلمات الفرنسية ذات الأصول العربية.  ونفس الشيء ينطبق على "فخورة" (fière) التي كانت تعني في بداية دخولها للفرنسية كنعت مذكر"متوحش، غير أليف، صعب الترويض"، والمعنى الأصلي هذا ولئن انحسر بتطور الكلمة، فقد بقي في كلمة "féroce" (التي يعود تاريخ فرنستها لسنة 1460) وهي مشتقة من نفس الجذر. والكلمتان في أصلهما، حتى وإن حق للفخورة أن تنكر ذلك، تنبعان من العربية  "فَرَّاس" (وتعني "مفترس" وهي أحد أسماء الأسد) عن طريق اللاتينية "férus"، التي تفيد نفس المعنى الأصلي للفرنسية. ولا نستغرب أن نجد النعت الفرنسي، وفق العديد من النصوص القديمة وأولها "نشيد رولان"(Chanson de Roland)، يطلق بالخصوص لوصف الأسد أو الفهد. فَرَّاس، مفترس، فريسة، افتراس، فَرَسَ، وغيرها، هي شقيقات لـــ"فيارfier" و"فيروس féroce"الفرنسيتين. أما "الحسنة"(aumône) التي دخلت الفرنسية في النصف الأول من القرن العاشر في شكل almosnes، وكذلك الشأن بالنسبة لشقيقاتها في اللاتينية (eleemosyna إليموسينا) واليونانية (ἐλεημοσύνη إليموسينا)، وغيرها من اللغات، فهي أيضا، وبلا أدنى ريب، ولو أنكرت الفخورة ذلك، من الجذر العربي "المحسن" من "أحسن" الذي اشتق منه "أحَاسِنُ"، "حُسْنَى"،  "إحسانات"، حُسْنَيَاتٌ"،"الإحسان"، الخ... وفي مواريث الفرنسية الوسطى، فضلا عن حرفي التعريف العربيين "الــ al, el"، أكثر من شاهد يدعم هذه الأصل المذكور: (almosne, almosnance, almosnerie, almosnie, almosner, almosneus).  استعمل فولتير في جملة واحدة للتدليل على حاجة الفرنسية لللإثراء اللفظي ثلاث كلمات من أصول عربية (gueuse, fière, aumône)، تضاف اليها رابعة عندما شاء البعض (من أمثال جاك ميلشيور فيلفرانش) استبدال "fière فخورة" بــ"نبيلة noble" (*). ومغزى هذه الحاشية: ما أحوج إعلاميينا لمعرفة الفرنسية والعربية كما ينبغي حتى يدركوا أنه بقدر ما لا تحتاج تونس لاستيراد الدقلة (التي اشتقت من اسمها اللاتينية dactylus والفرنسية datte) من فرنسا لا تحتاج لغة الضاد لاستيراد ما يقر الفرنسيون أنفسهم بأنه بضاعة الضاد. ولعل فيما سأختم به هنا دلالة بينة على صدق ما أدعيه: "إذا استطعنا القول أنه قبل نهضة الآداب كانت الفرنسية بالكاد تحتوي على كلمة من أصل يوناني مقابل خمسمائة كلمة من أصل لاتيني، سيكون من الإنصاف أن أضيف: ومقابل نفس العدد تقريبا من الكلمات ذات الأصول العربية . لا بل زد على ذلك ، جاءت هذه العبارات اليونانية النادرة عبر اللغة العربية بدلاً من اللغة اللاتينية. " (لويس اميلي سيديو ، خلاصة تاريخ العرب)

(*) الكلمة أو ل ما دخلت الفرنسية، وكان ذلك بتاريخ 1100، موثقة بشكلين: nobile و noble. ويراد لها -وفق من يدعي في أصول الكلام فلسفة- أن تكون مشتقة من nobilis اللاتينية المركبة بدورها من "gnosco (« connaitre »)" بإضافة اللاحقة "-bilis". والحال أن الجذر الثلاثي (n.b.l = نـ. ب. ل) كما المعنى الأصلي للكلمة الفرنسية (من يفوق الآخرين بجودته وقيمته ومزاياه) يغني عن كل تعليق.

 (6) الفساد في المفهوم اللغوي وفي المفهوم الدارج عندنا والمتعلق بكسب مادي غير مشروع. في الفصلين 46 و 47 من "المقدمة" تعرض ابن خلدون لـمسألة الفساد في اللسان العربي، وقال أنه ينجر عن تراكمات استعمالتية لألفاظ غير عربية تصبح بالتداول والتكرار "مَلَكَةً"، وهو يقول بهذا الصدد:" اللغة للعرب بالطبع أي المَلَكَة الأولى أُخِذَتْ عنهم، ولم يأخذوها عن غيرهم. ثم فسدت هذه المَلَكَة لمُضَرَ بمخالطتهم الأعاجم. وسبب فسادها أن الناشئ من الجيل، صار يسمع في العبارة عن المقاصد كيفيات أخرى غير الكيفيات التي كانت للعرب، فيعبر بها عن مقصوده لكثرة المخالطين للعرب من غيرهم، ويسمع كيفيات العرب أيضا، فاختلط عليه الأمر وأخذ من هذه وهذه، فاستحدث مَلَكَةً وكانت ناقصة عن الأولى. وهذا معنى فساد اللسان العربي." (مقدمة العلامة ابن خلدون، نشر الأرقم بن ابي الأرقم، 2016، ص. 633) والتشخيص الخلدوني لهذا الداء، إذ ينطبق على اللسان التونسي الدارج والمتدرج أكثر نحو مَلَكَةً الفرنعربية، يستدعي بالضرورة في رأيي اهتمام كل الهيئات المذكورة وعلى رأسها المعنية بمقاومة الفساد. دون ذلك، تونس تصبح مشروعا لــ"مقاطعة" فرنسية تصبح العربية فيها لغة ثانية والفرنعربية لغتها الأولى. وإذا طرحنا إمكانية وجود مال فاسد يدعم هذا "التفرنس" الغازي بالشكل المجسد صورة وصوتا وفيديو، فاهتمام الهيئة المعنية بهذه المسألة يصبح ضمن صلاحيتها المضمنة أصلا بالنص القانوني.

(7) نشير الى أن هذا القانون ليس الإجراء الوحيد الهادف لحماية اللغة الفرنسية، إذ نجد هذه الحماية أيضا ضمن صلاحيات "المجلس الأعلى للصوتيات والمرئيات"، وهو النوذج الأصلي لما نسميه في تونس "الهايكا"، لكن الهيئة التونسية، فيما يبدو، أسقطت مما استنسخته البند المتعلق بالدفاع عن اللسان الوطني.


Quand les médias crachent sur Aaron Bushnell (Par Olivier Mukuna)

Visant à médiatiser son refus d'être « complice d'un génocide » et son soutien à une « Palestine libre », l'immolation d'Aar...